بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد
لم يرد نص شرعي في حكم أكل الدود والحشرات بعينها، وإنما وردت نصوص عامة في الباب، كما سيأتي.
تنبيهات
مما يحرم بأدلة واضحة أربعة أنواع:
الأول: كل ما نهى رسول الله عن قتله، ومن ذلك النمل. فعن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم (نهى عن قتل أربع من الدواب النملة والنحلة والهدهد والصرد) رواه أبو داود بإسناد صحيح على شرط البخاري ومسلم.
الثاني: ما يتغذى على الجيفة والنجاسة، كالصراصير، وما يعيش في المجاري، وهو الذي يسمى بالجلالة، فعن ابن عمر رضي الله عنهما قال : ( نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ أَكْلِ الْجَلَّالَةِ ، وَأَلْبَانِهَا ) رواه الترمذي (1824)
الثالث: الذي ثبت ضرره، كالعقرب، لقول الله تعالى: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} وقول رسول الله (لا ضرر ولا ضرار)
الرابع: ما نصَّ رسول الله على أنها من الفواسق، عن سعد بن أبي وقاص « أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ بِقَتْلِ الْوَزَغِ وَسَمَّاهُ فُوَيْسِقًا » وعن عائشة عن النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهُ قَالَ: « خَمْسٌ فَوَاسِقُ يُقْتَلْنَ فِي الْحِلِّ وَالْحَرَمِ: الْحَيَّةُ، وَالْغُرَابُ الْأَبْقَعُ، وَالْفَأْرَةُ، وَالْكَلْبُ الْعَقُورُ، وَالْحُدَيَّا »
حجة التحريم
للمحرمين أن يحتجوا بثلاثة نصوص
الأول: قوله تعالى: {ويحرم عليهم الخبائث} فيقولون: إن النفوس تتقذر من هذه الحشرات، والديدان، فهي من الخبائث.
والثاني: قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ} فيقال: هذه لا يمكن تذكيتها
والثالث: وهو تابع للثاني: عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أُحِلَّتْ لَكُمْ مَيْتَتَانِ وَدَمَانِ، فَأَمَّا الْمَيْتَتَانِ، فَالْحُوتُ وَالْجَرَادُ، وَأَمَّا الدَّمَانِ، فَالْكَبِدُ وَالطِّحَالُ» رواه أحمد (5723) وابن ماجه (3314) فيقال: ما أحل الله من الميتة غيرها
حجة الإباحة
للمبيحين أن يحتجوا بوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا} فيقال: هذه الآية عامة، إلا فيما استثناه الله ورسوله.
ولهم أن يردوا على حجة المحرمين بما يأتي
أولا: احتجاجهم بتحريم الخبائث.
يُرَدُّ عليه بثبوت نفعها، وغناها بالبروتين فهي نافعة لا خبيثة، وأما استقذار الناس لها، فهذا أمر عُرفي، فقد استقذر رسول الله ﷺ الضَّبَّ ولم يحرِّمه، وأباح ﷺ الجراد، مع أن نفوس كثير من الناس تعافه، فهذا لا يعدُّ معيارًا دقيقًا يمكن بناء الحكم عليه.
ثانيا: اشتراط الذكاة.
يُرَدُّ عليه بأن ذلك في ما يمكن تذكيته مما له دم سائل، فأما الحشرات فلا دم لها، فهذا الجراد والسمك أحلَّ الله ميتته.
ثالثًا: أن الله لم يبح من الميتة غير السمك والجراد
يُرَدُّ عليه بأن العدد لا مفهوم له، فقوله (ميتتان) لا يعني (ميتتان فقط)
أقوال الفقهاء في الباب
مبيحون
الإمام الأوزاعي: قال إسحاق الكوسج: «سُئِلَ الأوزاعي عن أكل الذِّبَّانِ. قال: إن طابَت نفسُه فليأكُله» “مسائل الكوسج” (2849)
الإمام مالك: «ولقد سئل مالك عن شيء يكون في المغرب يقال له الحلزون يكون في الصحارى يتعلق بالشجر أيؤكل؟ قال: أراه مثل الجراد ما أخذ منه حيا فسلق أو شوي فلا أرى بأكله بأسا، وما وجد منه ميتا فلا يؤكل». المدونة (1/ 542)
وقال مالك في كتاب ابن حبيب: «من احتاج إلى شيء من خشاش الأرض لدواء أو غيره مما لا لحم له ولا دم، فذكاته كذكاة: الجراد، والعقرب، والخنفساء، والجُندَب، والزُّنْبُور، واليَعْسوب، والذَّرّ، والنمل، والسوس، والحَلَم، والدود، والبعوض، والذباب. وقال في الحلزون: لا يؤكل ميتته. وما وجد حيًّا فسلق أو شوي؛ أُكل». التبصرة للخمي (4/ 1507)
تعليق: أما اشتراطه إماتتها يدويًا، فهو يشترطه أيضًا في الجراد.
الإمام أحمد: سأله الكوسج عن أكل الذباب، فقال: «لا أراهُ حرامًا» “مسائل الكوسج” (2849)
وقال الإمام أحمد: «قال أبو داود: سمعت أحمد سئل عن بنت وردان وقع في شيء؟ قال: لا يؤكل» “مسائل أبي داود” (1649) قلت: بنت وردان هو الذي يسميه الناس: الصرصار. وهو جار على أصلنا في تحريم ما يتغذى على النجاسة، كما نقل ابن قدامة: «وكرِهَ أحمدُ الصَّيْدَ ببَناتِ وَرْدانَ، وقال: إنَّ مَأْواها الحُشُوشُ». المغني لابن قدامة (13/ 289 ت التركي) قلت: وسار الحنابلة على أصل الشافعي كما يأتي في موضعه.
الإمام إسحاق بن راهويه: قال الكوسج: قال إسحاق: «تركُه خير؛ لأنه ليسَ من الأشياءِ التي يُنتفعُ بها» “مسائل الكوسج” (2849) قلت: فضَّل تركه لانتفاء المنفعة لا تحريمًا.
قال سحنون المالكي: «في برغوث وقع في ثريد لا بأس أن يؤكل». المنتقى شرح الموطإ (1/ 61)
أبو بكر الصقلي المالكي: «ولا يؤكل الخشاش لأنه مات حتف أنفه، فلا يؤكل إلا بذكاة وذكاته مثل ذكاة الجراد». الجامع لمسائل المدونة (1/ 78)
قلت: الخشاش: حشرات الأرض، وقيل هو الذي له قِشر صلب منها.
ابن رشد المالكي: «وإنما اختلف في الخشاش التي ليس لها لحم ولا دم سائل، فقيل: لها حكم دواب البحر أنها تؤكل بغير ذكاة، وإنها لا تفسد ما مات فيه من طعام أو إدام، وهو قول عبد الوهاب في التلقين، وقيل: إنه لا يؤكل شيء من ذلك إذا احتيج إليه إلا أن يذكي بما يذكى به الجراد من قتلها بقطع رؤوسها أو أرجلها أو طرحها في المرعف أحياء». البيان والتحصيل (17/ 603)
أبو الوليد الباجي المالكي: «وأما ما ليست له نفس سائلة كالجراد والحلزون والعقرب والخنفساء وبنات وردان والقرنبا والزنبور واليعسوب والذر والنمل والسوس والحلم والدود والبعوض والذباب فلا يجوز أكله والتداوي به لمن احتاج إلى ذلك إلا بذكاة والذي يجزي من الذكاة في الجراد أن يفعل بها ما لا تعيش معه ويتعجل موتها». المنتقى شرح الموطإ (3/ 110)
محرمون
قال الشافعي: «فإن العرب كانت تحرم أشياء على أنها من الخبائث وتحل أشياء على أنها من الطيبات فأحلت لهم الطيبات عندهم إلا ما استثنى منها وحرمت عليهم الخبائث عندهم قال الله عز وجل {ويحرم عليهم الخبائث}. (قال الشافعي): فإن قال قائل ما دل على ما وصفت؟ قيل لا يجوز في تفسير الآية إلا ما وصفت من أن تكون الخبائث معروفة عند من خوطب بها والطيبات كذلك إما في لسانها وإما في خبر يلزمها ولو ذهب إلى أن يقول كل ما حرم حرام بعينه وما لم ينص بتحريم فهو حلال أحل أكل العذرة والدود وشرب البول لأن هذا لم ينص فيكون محرما ولكنه داخل في معنى الخبائث التي حرموا فحرمت عليهم بتحريمهم». الأم للإمام الشافعي (2/ 264 ط الفكر)
وقال: «وذلك مثل الرخمة والنعامة، وهما لا يضران، وأكلهما لا يجوز، لأنهما من الخبائث وخارجان من الطيبات. وقد قلت مثل هذا في الدود، فلم أجز أكل اللُّحَكَاءِ وَلَا الْعَظَاءِ ولا الخنافس، وليست بضارة ولكن العرب كانت تدع أكلها، فكان خارجا من معنى الطيبات، داخلا في معنى الخبائث عندها». الأم للإمام الشافعي (2/ 274 ط الفكر)
«الحيوانات المستقذرة كالحشرات وهوام الأرض قال في الجواهر يحكي المخالفون عن المذهب جواز أكلها قال ابن بشير والمذهب بخلاف ذلك وحرمها الشافعي لأنها خبائث والحلزون يؤكل منه ما سلق أو شوي لا ما مات وحده». القوانين الفقهية (ص116)
قال ابن حزم الظاهري: «لا يحل أكل الحلزون البري، ولا شيء من الحشرات كلها كالوزغ والخنافس، والنمل، والنحل، والذباب، والدبر، والدود كله – طيارة وغير طيارة – والقمل، والبراغيث، والبق، والبعوض وكل ما كان من أنواعها لقول الله تعالى: {حرمت عليكم الميتة} [المائدة: 3] .
وقوله تعالى {إلا ما ذكيتم}». المحلى بالآثار (6/ 76)
قال أبو بكر الصقلي المالكي: «قال بعض أصحابنا: وقياسه الخشاش على الجراد فيه نظر، ولعله إنما قال: يؤكل الجراد، وإن مات حتف أنفه، لما جاء “أحلت لنا ميتتان ودمان، فالميتتان: الجراد والحوت”». الجامع لمسائل المدونة (1/ 79)
قال المحاملي الشافعي: «فكل طاهر حلال يحل أكله5 إلا لحم الحيوان غير المأكول كالبغال والحمير وغيرهما6 والحشرات7». اللباب في الفقه الشافعي (ص391)
قال القدوري الحنفي عن النحل: «ولأنه من الحشرات الذي لا يجوز أكله، كالزنبور». التجريد للقدوري (5/ 2607)
قال ابن قدامة الحنبلي: «وما اسْتَخْبَثَتْه العربُ، فهو مُحَرَّمٌ … فمِنَ المُسْتَخْبَثاتِ الحَشَراتُ، كالديدانِ، والجُعْلانِ، وبناتِ وَرْدَان، والْخَنافِسِ». المغني لابن قدامة (13/ 316 ت التركي)
هذا والله أعلم