بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد
في مرئية لمحمد الددو زعم أن تفسير قول النبي ص «تسمع وتطيع للأمير، وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك» إن ضرب ظهرك بحق وأخذ مالك بحق. ثم زعم أن تفسيره بأن الحاكم إن فعل ذلك ظلمًا؛ قال هذا تفسير غريب لم يقل به أحد.
من الناس يقول في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (وإن اخذ مالك وضرب ظهرك فاسمع) فيظن أن هذا في أخذ ما لك بالحرام، وهذا تفسير غريب جدًا لم يقل به احد، ولا يمكن أن يحمل عليه النص النبوي. فالنبي صلى الله عليه وسلم لا يمكن أن يقول لك اسمع وأطع وإن اغتصب زوجك (المحاور: نعم وجد من يقول حتى اغتصب زوجك) الددو: إي نعم، فهذا لا يمكن أن يقول به أحد. وأيضا ابن حزم ذكر في شرح هذا الحديث أمرا عجيبا قال: يقال لمن رأى أن ذلك في الحرام، قالوا له: طيب وإن اغتصب اهلك؟ فان قال: لا لا أقول ذلك. قيل له ما الفرق بين اهلك وبين غيرها من سائر نساء المسلمين؟ هل لها حصانة دون غيرها؟
فلذلك المقصود إن أخذ مالك بحق، وجلد ظهرك بحق. لكن لا يمكن أن يقول النبي صلى الله عليه وسلم وإن اخذ مالك بغير حق وجلد ظهرك بغير حق وهو الذي دعاك الى: قال: المقتول دون ما له شهيد والمقتول دون أهله شهيد والمقتول دون عرضه شهيد، والمقتول دون دينه شهيد. |
والرد على هذه البدعة:
أولا: مسألة (وإن اغتصب زوجك)
هذه غير موجودة في الروايات، ولا فيما وصلت له من كلام أهل العلم، وإنما جاء بها ليغالط والله أعلم، أو أنه لا يفهم ما جاء عند الآجري من قوله (وإن انتهك عرضك) ففهمها فهم العوام، وهي في اللغة كما قال إبراهيم الحربي: «وَإِنْ بَالَغْتَ فِي شَتْمِ الْعِرْضِ قَالَ: انْتَهَكَ عِرْضَهُ». [«غريب الحديث» (2/ 599)] وقال الأزهري: «فإِن شَتَمْتَ وبالَغْتَ فِي شَتْمِ العِرض قيل: انْتَهَكَ عِرْضَه». [«تهذيب اللغة» (6/ 17)]
ثانيًا: الطاعة على رغم ضرب الظهر وأخذ المال
وهذه مسألة علميَّة لا تتعلق بالكلام عن حاكم معين أو زمان معيَّن، وليس المراد منها الدفاع عن تبديل أحكام الدين، ولا الرضى بظلم أحد من العالمين، فالرضى بالظلم وتسويغه والإعانة عليه من كبائر الذنوب.
وبعد:
روى مسلم في صحيحه: قال حذيفة بن اليمان: « قلت: يا رسول الله، إنا كنا بشر فجاء الله بخير فنحن فيه، فهل من وراء هذا الخير شر؟ قال: نعم. قلت: هل وراء ذلك الشر خير؟ قال: نعم. قلت: فهل وراء ذلك الخير شر؟ قال: نعم. قلت: كيف؟ قال: يكون بعدي أئمة لا يهتدون بهداي، ولا يستنون بسنتي، وسيقوم فيهم رجال قلوبهم قلوب الشياطين في جثمان إنس. قال: قلت: كيف أصنع يا رسول الله إن أدركت ذلك؟ قال: تسمع وتطيع للأمير، وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك، فاسمع وأطع .». [«صحيح مسلم» (6/ 20 ط التركية)]
حذيفة كان يسأل عن الشر، لا عن الخير، فلو كان الضرب وأخذ المال بحق، لكان خيرًا لا شرًا، ثم كيف يكون بحق والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: «أئمة لا يهتدون بهداي، ولا يستنون بسنتي» فلما سأله حذيفة «كيف أصنع؟» قال: «تسمع وتطيع للأمير، وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك» فلا شك أنه يريد: ولو وصل به الشر إلى ضربك وأخذ مالك، فهل هذا بحق؟!
بل في حديث عبادة بن الصامت جاء بلفظ «وإن أكلوا مالك». [«صحيح ابن حبان 1124]
وفي معناه ما رواه الترمذي من طريق علقمة بن وائل بن حجر، عن أبيه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجل سأله فقال: أرأيت إن كان علينا أمراء يمنعونا حقنا ويسألونا حقهم؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اسمعوا وأطيعوا فإنما عليهم ما حملوا وعليكم ما حملتم»: هذا حديث حسن صحيح. [«سنن الترمذي» (4/ 488 ت شاكر)]
فهذا نص على أنهم يمنعون حقًّا، فهل يجهل الحديث من يزعم أتباعه أنه يحفظ كل كتب الدنيا، أم ثَقُلت عليه السنَّة؟!
ومع أن الحديث واضح لا يُعارَض بمِثل هذا التحريف، إلا أني سأنقل عن الشراح وغيرهم ما يبين اتفاق أفهام الناس على خلاف ما حرفَّه الددو.
كلام أهل العلم
بُوِّبَ عليه في صحيح مسلم: «باب وجوب ملازمة جماعة المسلمين عند ظهور الفتن، وفي كل حال. وتحريم الخروج على الطاعة ومفارقة الجماعة». [«صحيح مسلم» (3/ 1475 ت عبد الباقي)]
وبوب عليه الإمام نعيم بن حمَّاد: «الْعِصْمَةُ مِنَ الْفِتَنِ، وَمَا يُسْتَحَبُّ فِيهَا مِنَ الْكَفِّ وَالْإِمْسَاكِ عَنِ الْقِتَالِ، وَالْعُزْلَةِ فِيهَا، وَمَا يُكْرَهُ مِنَ الِاسْتِشْرَافِ لَهَا». [«الفتن» (1/ 139)]
قال الإمام الآجرِّي: «أمر عليك من عربي أو غيره أسود أو أبيض أو عجمي فأطعه فيما ليس لله فيه معصية، وإن حرمك حقا لك، أو ضربك ظلما لك، أو انتهك عرضك، أو أخذ مالك، فلا يحملك ذلك على أن تخرج عليه بسيفك حتى تقاتله، ولا تخرج مع خارجي يقاتله، ولا تحرض غيرك على الخروج عليه، ولكن اصبر عليه وقد يحتمل أن يدعوك إلى منقصة في دينك من غير هذه الجهة يحتمل أن يأمرك بقتل من لا يستحق القتل، أو بقطع عضو من لا يستحق ذلك، أو بضرب من لا يحل ضربه، أو بأخذ مال من لا يستحق أن تأخذ ماله، أو بظلم من لا يحل له ولا لك ظلمه، فلا يسعك أن تطيعه، فإن قال لك: لئن لم تفعل ما آمرك به وإلا قتلتك أو ضربتك، فقل: دمي دون ديني». [«الشريعة للآجري» (1/ 381)]
وقال ابن تيمية: «وأمر مع هذا بالسمع والطاعة للأمير، وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك، فتبين أن الإمام الذي يطاع هو من كان له سلطان، سواء كان عادلا أو ظالما». [«منهاج السنة النبوية» (1/ 561)]
وبوَّب عليه ابن عبد الهادي (ابن المبرد): «في أئمة جور أخبرنا عنهم النبيُّ صلى الله عليه وسلم وما ذكر من ظهور الجور». [«إيضاح طرق الاستقامة» (ص231)]
فصل
فإن لم يكف ما نقلنا -وهو كاف لكل ذي لبٍّ- فهاك هذه النقول للمعاند.
كذلك بوب البيهقي على هذا الحديث: «بَابُ الصَّبْرِ عَلَى أَذًى يُصِيبُهُ مِنْ جِهَةِ إِمَامِهِ، وإِنْكَارِ الْمُنْكَرِ مِنْ أُمُورِهِ بِقَلْبِهِ، وَتَرْكِ الْخُرُوجِ عَلَيْهِ». [«السنن الكبرى – البيهقي» (8/ 271 ط العلمية)]
قال القرطبي في المُفهم: «فأمَّا قوله في حديث حذيفة اسمع وأطع، وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك (3) فهذا أمر للمفعول به ذلك للاستسلام والانقياد، وترك الخروج عليه مخافة أن يتفاقم الأمر إلى ما هو أعظم من ذلك». [«المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم» (4/ 39)]
وقال النووي: «وفي حديث حذيفة هذا لزوم جماعة المسلمين وإمامهم ووجوب طاعته وإن فسق وعمل المعاصي من أخذ الأموال وغير ذلك فتجب طاعته في غير معصية». [«شرح النووي على مسلم» (12/ 237)]
وقال ابن حجر:«وبالدعاة على أبواب جهنم من قام في طلب الملك من الخوارج وغيرهم، وإلى ذلك الإشارة بقوله: الزم جماعة المسلمين وإمامهم؛ يعني: ولو جار. ويوضح ذلك رواية أبي الأسود: ولو ضرب ظهرك وأخذ مالك». [«فتح الباري» لابن حجر (13/ 36 ط السلفية)]
قال ملا علي قاري: «ولو من صفته أنه (جلد ظهرك) أي: ضربك بالباطل (وأخذ مالك) أي: بالغصب، أو ما لك من المنصب، والنصيب بالتعدي (فأطعه) أي: ولا تخالفه ; لئلا تثور فتنة». [«مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح» (8/ 3391)]
فهل الددو يجهل هذا الكلام برغم انتشاره في الكتب؟ فأين ما يَدَّعونه فيه من غزارة الاطلاع وكثرة الحفظ؟
فإن كان مطَّلِعًا حافظًا فقد تعمد الكذب، ومثله لا يؤخذ عنه العلم، وإن كان غير مطَّلِعٍ فليس بحقيقٍ أن يؤخذ عنه.
فصل: هل هذا ذل ومهانة كما يزعمون؟
قال عليه الصلاة والسلام: «وعليكم بالطاعة، وإن عبدا حبشيا عضوا عليها بالنواجذ، فإنما المؤمن كالجمل الأنف حيثما انقيد انقاد» [رواه أحمد وابن ماجه]
وقال رسول الله ص: «وجَعَلَ الذلة والصغار على من خالف أمري». [«صحيح البخاري» (3/ 1067)]
فالذلَّة تكون في مخالفة أمره، لا بما تتوهم العقول القاصرة أنه ذلَّة.
ولا شك أن كلَّا نظام سياسيِّ لا بد له من استخدام نوع من القوَّة في ضبط البلاد، يُذكَر عن عثمان بن عفَّان: «إن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن» ومعنَى (يَزَع) يكُفُّ ويمنع.
ومع ذلك فإن السلطان غير كامِلٍ ولا مثالِيّ، بل كل نفس بشريَّةٍ ينتابها نوع من من الطغيان (إلا ما رحم ربي)، فقد قال تعالى: {كلا إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى} فإن قام هذا السلطان بنَوعٍ من الجور، فتعدَّى على إنسان مُسلِمٍ بِظُلمٍ، فهل هذا مسوِّغٌ صحيح للخروج عليه؟ إن قيل: نعم، فلن يستَقِرَّ بلدٌ من البِلادِ أسبوعًا واحدًا، وانظر إلى الخوارج لمَّا أعملوا التكفير على المخالفة كم كفَّروا لهم من أمير وانفضُّوا عنه وتحاربوا بينهم، فلم تقم لهم دولة.
وحتى الدول الغربيَّة التي يراها القرضاوي وأتباعه نموذجًا مثاليًّا، لا يخلو يوم فيها من أكل مال شعبها بغير حق، سواء بمخالفات إدارية غير صائبة، أو بأخذ ضريبة غير جائزة، أو ما شابه، وكذلك بالسجن ظلمًا، فلو افترضنا أن كل واحد ممن وقع عليه هذا الأمر حمل سلاحه وخرج لما بقيت لهم دولة يغتر بها هؤلاء.
فإن قال قائل: إن شعوبهم يطالبون بحقوقهم هذه عن طريق المحاكم.
نقول: وهذا مشروع، وقد احتكم علي وهو خليفة مع معاوية إلى الحكمين في القصة المشهورة، وروى غير واحد احتكام عمر وهو خليفة مع العباس إلى أبي بن كعب [كما في طبقات ابن سعد وتاريخ دمشق والمحلى]
سيُقال: فإن لم يستطع مقاضاته؟
نقول: فلا يُحدِث فتنة في البلد تراق فيها الدماء ويزعزع فيها الأمن، ويُسلَّطُ فيها الأعداء، وليعمل بقول رسول الله ص: «أدوا الحق الذي عليكم، وسلوا الله الذي لكم». [رواه أحمد والترمذي]
وفي واقع جميع الجماعات فإنها إن كان الحاكم مِنها أو كان لا يحارِبُ فكرَها فإنها ستكون ضد الخروج عليه وإن ظَلَم، وتكون حريصةً على استقرار حكمه، وعدم زعزعته، وعلى الإصلاح بالنصح والوسائل المشروعة
فصل: حول ضعف الحديث
تأويل الددو هذا الحديث هو فرع عن تصحيحه إياه، لكن عددا من الحركيين يروج لتضعيفه، كالقرضاوي، وغيره، ويحتجون بأن الدارقطني حكم على زيادة (وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك) بأنَّها مُرسلة.
الدارقطني كان يبدي انتقاداته على صحيح مسلم، وليس يتكلم عن الحديث على العموم. قال الدارقطني
«53 – وأخرج مسلم حديث معاوية بن سلام عن زيد عن أبي سلام قال: قال حذيفة: “كنا بشر فجاءنا الله بخير”. وهذا عندي مرسل، أبو سلام لم يسمع من حذيفة ولا من نظرائه الذين نزلوا العراق لأن حذيفة توفي بعد قتل عثمان رضي الله عنه بليال، وقد قال فيه حذيفة فهذا يدل على إرساله». [«الإلزامات والتتبع للدارقطني» (ص181)] |
فالدارقطني أعلَّ هذا الإسناد بقوله (أبو سلام لم يسمع من حذيفة)
ولكن قد رواه غير واحد من غير هذا الطريق المرسل، فرواه متصلا من طريق سبيع بن خالد عن حذيفة الطيالسي في مسنده (444) ونعيم في الفتن (357) والبزار في المسند (2960) والحاكم في المستدرك (8332) وقال عنه: هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه، وقال الذهبي في تلخيصه (8332): صحيح.
قال النووي في تعليقه على هذا الأمر «وهو كما قال الدارقطني لكن المتن صحيح متصل بالطريق الأول وإنما أتى مسلم بهذا متابعة كما ترى وقد قدمنا في الفصول وغيرها أن الحديث المرسل إذا روي من طريق آخر متصلا تبينا به صحة المرسل وجاز الاحتجاج به ويصير في المسألة حديثان صحيحان». [«شرح النووي على مسلم» (12/ 237)]
وكلام النووي لا يُسَلَّم له من الناحية الحديثيَّة، إذ في هذه الحالة لا يصير في المسألة حديثان صحيحان، ولكن مقصودي من إيراد قوله الحجة عليهم، ألم يقرأوا شرح إمامهم الذي يتبجحون ليل نهار بأنه شرح مسلمًا، أم قرأوا وكتموا ما لا يعجبهم. فإن قوله بأن الحديث جاء من طرق أخرى صحيحة قول صحيح.
ورواه من حديث عبادة: ابن زنجويه في الأموال (24) وابن أبي عاصم في السنة (1026) والشاشي في مسنده (1221) وابن حبان في صحيحه (904)
وبهذا يتبيَّن المقصود
والله أعلم