إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً.
أما بعد:
فإنَّ علم أصول الفقه: علم مهم، يحتاجه طالب العلم في سائر مراحله، وقد عدَّه عدد من العلماء أهمَّ علم من علوم الآلة، وإتقانه شرط لكل مجتهد. وعلم تخريج الفروع على الأصول هو العلم الذي يربط بين الفرع والأصل، فبدونه لا يمكن الاستفادة من علم أصول الفقه([1]).
وفي هذه الرسالة سأبحث في مسألة التعارض، وأنقل فيها أقوال أهل العلم.
المبحث الأول: معنى التعارض
تعريف التعارض:
التعارض لغة:
قال ابن فارس: «الْعَيْنُ وَالرَّاءُ وَالضَّادُ بِنَاءٌ تَكْثُرُ فُرُوعُهُ، وَهِيَ مَعَ كَثْرَتِهَا تَرْجِعُ إِلَى أَصْلٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ الْعَرْضُ الَّذِي يُخَالِفُ الطُّولَ. وَمَنْ حَقَّقَ النَّظَرَ وَدَقَّقَهُ عَلِمَ صِحَّةَ مَا قُلْنَاهُ» ([2])
ومن معانيه التي ذكرها أهل اللغة:
قال الجوهري: « عارَضَهُ، أي جانبَهُ وعدَلَ عنه» ([3])
قال ابن منظور: « وعارَضَ الشيءَ بالشيءَ مُعارضةً: قابَلَه»([4])
التعارض عند الأصوليين:
قال المرداوي: تقابل الدليلين على سبيل الممانعة ([5])
وقال ابن قطلوبغا: هو تقابل المتساويين قوة حقيقة، مع اتحاد النسبة بين الحجج في نظر المجتهد([6])
وقال علاء الدين السمرقندي: «هو التمانع والتدافع بين الدليلين في حق الحكم. وذلك إنما يثبت عند وجود ركن التعارض وشرطه.
أما ركنه: هو المماثلة والمساواة بين الدليلين في الثبوت والقوة، لاستوائهما في الطريق نحو النصين من الكتاب، والخبر ين المتواترين، ونحوهما.
وأما الشرط: فهو المخالفة بين حكميهما» ([7])
خلاصة وبيان
يظهر من كلام الأصوليين أن التعارض هو اجتماع دليلين، أحدهما يدل في ظاهره على أمر ضد ما يدل عليه الدليل الثاني. مثل أن يقول: «اذهب شمالًا» والآخر يقول: «اذهب جنوبًا»
حقيقة التعارض
التعارض بين الأدلة الصحيحة لا يمكن أن يكون حقيقيًا، وذلك لقول الله تعالى: ﴿وَلَو كَانَ مِن عِندِ غَيرِ ٱللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ ٱختِلَـٰفا كَثِيرا﴾ [النساء: 82]
فالتعارض في حقيقته ظاهري، لا حقيقي، بمعنى أنه لو قال القائل: «اذهب شمالًا» وقال: «اذهب جنوبًا» فظاهر العبارتين التناقض، إلا أن الحقيقة قد تكون بأن أحد الأمرين جاء ناسخا للآخر، أو أنهما جاءا على سبيل التخيير، أو أنهما اختلفا باختلاف حال المخاطب، أو غير ذلك من وجوه الجمع.
قال الزركشي: «الْقَوْلُ فِي تَرْجِيحِ الظَّوَاهِرِ مِنْ الْأَخْبَارِ الْمُتَعَارِضَةِ وَهُوَ إنَّمَا يَكُونُ بِالنِّسْبَةِ إلَى ظَنِّ الْمُجْتَهِدِ، أَوْ بِمَا يَحْصُلُ مِنْ خَلَلٍ بِسَبَبِ الرُّوَاةِ، كَمَا سَبَقَ. وَأَمَّا التَّعَارُضُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ بَيْنَ حَدِيثَيْنِ صَحِيحَيْنِ فَغَيْرُ صَحِيحٍ، قَالَ ابْنُ خُزَيْمَةَ: لَا أَعْرِفُ أَنَّهُ رُوِيَ عَنْ الرَّسُولِ حَدِيثَانِ بِإِسْنَادَيْنِ صَحِيحَيْنِ مُتَضَادَّيْنِ، وَمَنْ كَانَ عِنْدَهُ فَلِيَأْتِ بِهِ حَتَّى أُؤَلِّفَ بَيْنَهُمَا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الرِّسَالَةِ “: وَلَمْ نَجِدْ حَدِيثَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ إلَّا وَلَهُمَا مَخْرَجٌ، أَوْ عَلَى أَحَدِهِمَا دَلَالَةٌ إمَّا مُوَافِقَةُ كِتَابِ اللَّهِ أَوْ غَيْرِهِ مِنْ السُّنَّةِ أَوْ بَعْضِ الدَّلَائِلِ.» ([8])
أوجه الجمع
يمكن الجمع بين الأدلة بطرق كثيرة، منها:
- القول بأنها على التخيير.
- إذا تعارض أمر وإباحة فيحمل الأمر على الندب. وإذا تعارض نهي وإباحة يحمل النهي على التنزيه.
- حمل كل دليل على حال خلاف الأخرى.
- ترجيح الأقوى إسنادًا.
- القول بنسخ أحدهما إذا علم التاريخ.
أمثلة تطبيقية
- النوع الأول: القول بأنها على التخيير، مثاله:
مثل الأحاديث التي وردت في صيغ التشهد، أو صيغ دعاء الاستفتاح. فقد وردت أكثر من صيغة فحملها أهل العلم على التخيير.
- النوع الثاني: إذا تعارض أمر وإباحة فيحمل الأمر على الندب، مثاله:
قال ﷺ: «الْغُسْلُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُحْتَلِمٍ»([9])
وقال: «مَنْ تَوَضَّأَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَبِهَا وَنِعْمَتْ، وَمَنِ اغْتَسَلَ فَالْغُسْلُ أَفْضَلُ» ([10])
فحُمِلَ الأول على الندب.
- النوع الثالث: إذا تعارض نهي وإباحة يحمل النهي على التنزيه، مثاله:
عن ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «نَهَى يَوْمَ خَيْبَرَ عَنْ أَكْلِ الثُّومِ» ([11])
وفي حديث أبي أيوب الأنصاري أنه سأل النبي ﷺ «أَحَرَامٌ هُوَ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا» ([12])
فحمل العلماء الأول على الكراهة.
- النوع الرابع: حمل كل دليل على حال خلاف الأخرى، مثاله:
قال تعالى: ﴿ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ، إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ﴾ [القيامة: 22، 23]
وقال: ﴿ لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ﴾ [الأنعام: 103]
قال الإمام أحمد: حين قالوا: ﴿أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمْ الصَّاعِقَةُ﴾ الآية.
فأنزل الله سبحانه يخبر أنه ﴿لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ﴾ أي أنه لا يراه أحد في الدنيا دون الآخرة. فقال: ﴿لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ﴾ يعني في الدنيا، أما في الأخرة فإنهم يرونه» ([13])
- ترجيح الأقوى إسنادًا.
قال ﷺ: «يَا عَلِيُّ لَا تَفْتَحْ عَلَى الْإِمَامِ فِي الصَّلَاةِ»([14])
وعَنِ الْمُسَوَّرِ بْنِ يَزِيدَ: شَهِدْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقْرَأُ فِي الصَّلَاةِ فَتَرَكَ شَيْئًا لَمْ يَقْرَأْهُ، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: «يَا رَسُولَ اللَّهِ، تَرَكْتَ آيَةَ كَذَا وَكَذَا» فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «هَلَّا أَذْكَرْتَنِيهَا» ([15])
فدل الأول على حرمة الفتح على الإمام، والثاني على استحبابه. فرجح الجمهور الثاني لأنه أصح، كما قال الأثرم ([16]).
- القول بنسخ أحدهما إذا علم التاريخ.
قوله ﷺ: «من قال لا إله إلا الله دخل الجنة»([17])
وقال: « إِنَّ بَيْنَ الرَّجُلِ وَبَيْنَ الشِّرْكِ وَالْكُفْرِ تَرْكَ الصَّلَاةِ » ([18])
فالأول فيه أن قول لا إله إلا الله كاف لدخول الجنة، والثاني فيه كفر من لا يصلي وإن كان قالها. فقال جماعة من أهل العلم بنسخ الأول.
قال الأثرم: «فقال العلماء: إن هذا كان قبل نزول الفرائض، يقول: لأن النبي صلى الله عليه وسلم دعا الناس في أول الأمر إلى ترك الأوثان الأنداد، ورفض الأصنام، وأن يقروا بأنه لا إله إلا الله، ووعدهم على ذلك الجنة فأجابه من أجابه، ثم فرض عليهم الصلاة، ولم يكونوا ملومين في ترك الصلاة قبل أن تفرض عليهم، فلما فرضت عليهم وجب عليهم الأخذ بها، وكانوا بتركها كفاراً» ([19])
«وَقَدْ رُوِيَ عَنِ الزُّهْرِيِّ، أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ دَخَلَ الْجَنَّةَ فَقَالَ: إِنَّمَا كَانَ هَذَا فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ، قَبْلَ نُزُولِ الْفَرَائِضِ وَالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ» ([20])
خاتمة
بعد هذا الاستعراض المختصر تبيَّن لنا أمورا، أهمها:
- قد يقع التعارض في الظاهر بين دليلين.
- هذا التعارض ظاهري، لا حقيقي، فلا تعارض في ما أنزل الله.
- العلماء لهم قواعد متعددة في الجمع بين الأدلة.
تنبيه: قد تختلف أنظار العلماء إلى هذه الأدلة، ويختلفون في اختيار طريقة الجمع بينها.
وهذا من العلوم الدقيقة التي تنمي العقل والملكة الفقهية. ويدل على اتساع أنظار العلماء، وشدة تحريهم في مسائل الفقه.
*تم والحمد لله*
([1]) انظر: تخريج الفروع على الأصول دراسة تاريخية ومنهجية وتطبيقية ج1ص7.
([5]) [تحرير المنقول وتهذيب علم الأصول (ص348)].
([6]) [خلاصة الأفكار شرح مختصر المنار (ص148)].
([7]) [ميزان الأصول في نتائج العقول (1/ 687)].
([8]) [البحر المحيط في أصول الفقه (8/ 167)].
([9]) [صحيح البخاري (1/ 293 ت البغا)].
([10]) [موطأ مالك رواية محمد بن الحسن الشيباني (ص47)].
([11]) [صحيح البخاري (5/ 135 ط السلطانية)].
([12]) [صحيح مسلم (6/ 127 ط التركية)].
([13]) [الرد على الجهمية والزنادقة للإمام أحمد ت صبري (ص78)].
([14]) [سنن أبي داود (1/ 342)].
([15]) [سنن أبي داود (1/ 238)].
([16]) [ناسخ الحديث ومنسوخه للأثرم (ص37)].
([17]) [مسند أبي يعلى (7/ 9 ت حسين أسد)].
([18]) [صحيح مسلم (1/ 62 ط التركية)].
([19]) [ناسخ الحديث ومنسوخه للأثرم (ص167)].
([20]) [سنن الترمذي (4/ 379 ت بشار)].