بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد:
هل يكفر كل مخالِفٍ في مسائل الاعتقاد؟
هذه مسألة كبيرة خاض غِمارها كثير من الناس، وكانوا بين مرجئ جعل مسائل الاعتقاد أهون الأمور، فلا يبنى على مخالفتها حكم، وبين متزندق أخرجها أصلًا عن كونها قصية من قضايا أمَّة الإسلام، وبين غالٍ كفَّر فيها الأمة إلا وافقه، وبينهما أشكال وألوان.
وحتّى لا نضل في هذه المسألة التي يبنى عليها إما كبيرة تكفير مسلم، أو إثم مساواة الكافر بالمسلم؛ علينا دراسة المسألة بشكل مؤصَّل.
المسألة الأولى: التفريق بين مراتب القضايا التي تقع فيها المخالفة
لابد من التفريق أولا بين:
- أصل الدين الأكبر: وهو الذي هو ما لا يتم للكافر الدخول في الإسلام إلا به، وهو الشهادتان لفظًا ومعنى، ثم سائر أركان الإيمان إجمالًا.
- وأصول الدين: وهي مسائل العقيدة الثابتة في الكتاب والسنّة، التي جائت فيها تفاصيل أركان الإيمان.
- وفروع الاعتقاد: وهي المسائل العقدية التي اختلف السلف فيها، وذلك التي غَلَب جهلها حتى في وسط طلاب العلم.
المسألة الثانية: هل العُذر ممكن في ما سبق
فأمّا أصل الدين الأكبر، فإنه الحد الأدنى الفارق بين الكفر والإيمان، فمَن جهله أو زاغ عنه لأي سبب فلا يَصح أن نعتبره من المسلمين، فإنه تخطى الحد الفاصل الذي لا ينتقل الإنسان من الكفر إلى الإسلام بدونه، فإذا كان هذا هو الذي يفرَّقُ فيه بين المسلم والكافر؛ فَمَن جَهِلَهُ لا يُعتَبرُ داخِلًا الإسلامَ أصلا. كمن أنكر الوحدانيَّة، أو أنكَرَ المَعادَ، أو أنكَرَ الرِّسالات.
وأما أصول الدين، فإذا أمكَنَ لمَن جهلها ابتداءً أن يسمَّى مُسلِمًا، فإنه مِن المُمكِنُ بقاؤه على الإسلام مع جهلِه بها، وليس المقصود هنا إعذار كل جاهل، ولا تجهيلُ كلِّ واقعٍ في هذا لرفعِ الكُفرِ عَنهُ، وإنما المُرادُ أصلُ إمكانِ الحُكمِ بإسلامِ الواقعِ في الكفر الاعتقاديِّ في أصول الدين.
دليل ذلك:
أولا:
عن عائشة قالت: « قلت: يا رسول الله، ابن جدعان كان في الجاهلية يصل الرحم ويطعم المسكين، فهل ذاك نافعه؟ قال: لا ينفعه، إنه لم يقل يوما: رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين » [صحيح مسلم 365 – (214)]
وجه الدلالة: مفهوم الحديث أن الرجل لو أقر لله بالربوبة وعبده وحده (والدعاء عبادة) وأقر بيوم الدين، فإنه ينجو. فجازت نجاة إنسان بإقراره بأصل الدين مع جهله بكثير مِن التَّفاصيل.
ثانيًا:
عن حذيفة بن اليمان، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ” يُدرَس (يتلاشى) الإسلام كما يدرس وشي الثوب، حتى لا يُدرى ما صيامٌ، ولا صلاةٌ، ولا نسك، ولا صدقةٌ، وليُسرَى على كتاب الله عز وجل في ليلة، فلا يبقى في الأرض منه آية، وتبقى طوائف من الناس الشيخ الكبير والعجوز، يقولون: أدركنا آباءنا على هذه الكلمة، لا إله إلا الله، فنحن نقولها ” فقال له (لحذيفة) صلة بن زُفَر: ما تغني عنهم “لا إله إلا الله” وهم لا يدرون ما صلاة، ولا صيام، ولا نسك، ولا صدقة؟ فقال: «يا صلة، تنجيهم من النار» [صحيح رواه ابن ماجه 4049 والحاكم 8460]
وهذا أصلٌ، وفتوى صحابي في جواز أن يكون إنسان على الإسلام حالَ جهله بأمور من أصول الدين، ما دام عنده أصل الدين الأكبر. بل حتى القرآن جَهِلَه هؤلاء بعد أن أسرِيَ عليه.
ثالثًا:
«عن وكيع بن حدس، عن عمه أبي رزين، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “ضحك ربنا من قنوط عباده، وقرب غيره” قال: قلت: يا رسول الله، أو يضحك الرب عز وجل؟ قال: “نعم” قال: لن نعدم من رب يضحك خيرا». [مسند أحمد (26/ 106 ط الرسالة)]
وجه الدلالة: أبو رزينٍ لم يكن يعلم صفةَ الضَّحِكِ لله تعالى، ولم يُطلَب منه تجديد إيمانه حين علمَها.
رابعًا:
قال الشَّافعي: «لِلَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَسْمَاءٌ وَصِفَاتٌ جَاءَ بِهَا أَنْبِيَاؤهُ، وَخَبَّرَ بِهَا نَبِيُّهُ ﷺ أُمَّتَهُ لا يَسَعُ أَحَدٌ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ كَانَتْ لَدَيْهِ الْحُجَّةُ، أَنَّ الْقُرْآنَ نَزَلَ بِهِ، وَصَحَّ عِنْدَهُ، بِقَوْلِ النَّبِيِّ ﷺ فِيمَا رُوِيَ عَنْهُ لا يَجُوزُ خِلافُهُ، فَإِنْ خَالَفَهُ بَعْدَ ثُبُوتِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِ بِهِ، فَهُوَ بِاللَّهِ كَافِرٌ، فَأَمَّا قَبْلَ ثُبُوتِ الْحُجَّةِ مِنْ جِهَةِ الْخَبَرِ فَمَعْذُورٌ بِالْجَهْلِ، لأَنَّ عِلْمَ ذَلِكَ لا يُدْرَكُ بِالْعَقْلِ، وَلا بِالرُّؤْيَةِ وَالْفِكْرِ، وَنَحْوُ ذَلِكَ». [المشيخة البغدادية لأبي طاهر السلفي (2/ 342)]
وهذا أصل عند الإمام في جواز بقاء المرء على الإسلام مع جهله بشيء من أصول الدين ما دام متحققًا بأصل الدين.
ثم قال بعد ذِكر الأمثلة: «وَإِنَّ هَذِهِ الْمَعَانِيَ الَّتِي وَصَفَ اللَّهُ بِهَا نَفْسَهُ، وَوَصَفَهُ بِهَا رَسُولُهُ ﷺ؛ لا يُدْرِكُ حَقِيقَةَ ذَلِكَ بِالْفِكْرِ، وَالرُّؤْيَةِ، وَلا يَكْفُرُ بِالْجَهْلِ بِهَا أَحَدٌ، إِلا بَعْدَ انْتِهَاءِ الْخَبَرِ إِلَيْهِ بِهَا وَإِنْ خَلَّفَ الْوَارِدُ لِذَلِكَ خَبَرًا -يَقُومُ فِي الْفَهْمِ مَقَامَ الْمُشَاهَدَةِ- فِي السَّمَاعِ، وَجَبَتِ الدَّيْنُونَةُ عَلَى سَامِعِهِ بِحَقِيقَتِهِ، وَالشَّهَادَةُ عَلَيْهِ، كَمَا عَايَنَ وَسَمِعَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ.»
فبيَّن هنا أنَّه يكفر بعد ثبوت الخبر عنده، الذي يقوم في السمع مقام المشاهدة.
خامسًا:
قال ابن قتيبة في قصَّةِ الذي قال لأبنائه “حرِّقوني”: «وهذا رجل مؤمن بالله، مقربه، خائف له، إلا أنه جهل صفة من صفاته، فظن أنه إذ أُحرِق وذُرِّيَ الريحَ أنه يفوت الله تعالى، فغفر الله تعالى له بمعرفته ما بِنِيَّتِهِ وبمخافته من عذابه جهله بهذه الصفة من صفاته. وقد يغلط في صفات الله تعالى، قوم من المسلمين ولا يحكم عليهم بالنار، بل تُرجَأُ أمورُهم إلى من هو أعلمُ بهم وبنياتهم.». [تأويل مختلف الحديث (ص186)]
وهذا نص من إمام آخر من أئمة السلف على عذر الجاهل في أصول الدين.
سادسًا:
قال البخاري: «وكل من لم يعرف الله بكلامه أنه غير مخلوق؛ فإنه يُعَلَّم ويُرَدُّ جهلُهُ إلى الكتابِ والسنةِ، فمن أبى بعد العلم به، كان معاندا، قال الله تعالى: {وما كان الله ليضل قوما بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون}، ولقوله: {ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا}». [خلق أفعال العباد للبخاري (ص62)]
وهذا في من جهِلَ أنَّ كلامَ اللهِ غيرُ مخلوق، وهو كفر مجمع عليه، فلا يكفر إلا بعد تعليمه. واحتَج بأن الله تعالى لم يرتِّب وعيده بجهنَّم على مخالِف الكتاب والسنة والإجماع إلا بعد أن يتبيَّن له الهدى. وثبوت أن القرآن غير مخلوق أمر من أصول الدين.
سابعًا:
قال الطبري مثلَ كلام الشافعي ، وقال في عبارته:
«وإن كان الخبر الوارد خبراً لا يَقطعُ مجيئُه العذرَ، ولا يزيلُ الشكَّ، غيرَ أن ناقله من أهل الصدق والعدالة؛ وجب على سامعه تصديقه في خبره في الشهادة عليه بأن ما أخبره به كما». [التبصير في معالم الدين للطبري (ص139)]
ثامنًا:
الإجماع على إسلام عوامِّ المسلمين مع انتشار الجهل بينهم بكثير من أسماء الله وصِفاتِه وآيات كتابه.
فصل:
إذا أمكن استمرار إسلام المرء مع جهله ببعض الأصول لعلَّةِ عدم بلوغه الخبر، أو لأنه بلغه الخَبَرُ من مصدر غير موثوقٍ فلم يُصَدِّقه؛ أمكنَ استمرارُ إسلامِه إن بلغه النص وحال حائل بينه وبين فهم النَّص، كظنِّه أنَّ معناه في العربيَّة على غير المعنى الصحيح (وذلك كظن كثير من القارئين أن قوله تعالى {فلا صريخ لهم} مِن رفعِ الصوت، والحق أنه ليس ذلك)
وهذا إما جهلا منه بالعربيَّة، أو تجهيلًا بأن عُلِّمَها خطًأ.
ففي مثال أبي رزين العقيلي: لو افترضنا وجود شخصين إلى جانبه سمعا معه كلام رسول الله صلى الله عليه وسلَّم
فأبو رَزِين: صدَّقَ واتَّبع، فناله ما نالَه مِن إيمان.
والثاني: قال: لا يجوز على الله الضَّحِك، لأن قواعد العقل أو الفلسفة تقول هذا، فهذا ألحَدَ وكَذَّب.
والثالث: جاهل بالكلام العربي، فظن معنى كلمة ضحك: “غَضب”، وذلك أنَّه سمعَ السِّياقَ فظَن قنوطَ العبد يستلزم غضب الرب ففهم الكلمة التي لا يعرف معناها بهذا الفهم (غَضِبَ ربُّنا من قنوط عباده) فهذا الرجل لم يفهم ويزدد إيمانًا كأبي رَزِين، ولم يُكذِّب كالثاني، بل جهِلَ جهلا مركبا، وقصَّر بالتعلُّم، فَضَلَّ بجهلِه، إلا أنَّه لَم يكفُر. لكن إذا رُفِعَ عنه الجهل؛ زال عُذرُه.
وهذا المثال الذي ذكرتُه لك يوافق ما تكلم عنه تقي الدين بقوله: «ولا ريب أن من اجتهد في طلب الحق والدين من جهة الرسول صلى الله عليه وسلم، وأخطأ في بعض ذلك فالله يغفر له خطأه، تحقيقاً للدعاء الذي استجابه الله لنبيه وللمؤمنين حيث قالوا: {ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا}». [درء تعارض العقل والنقل (2/ 103)]
إلا أنَّ سوء فهمه ومغفرة الله له لا تنفي عنه الضلال والابتداع، لأمرَين:
- الأول: أنَّ هذه المغفِرَةُ لا نَعلمُ تحققها في هذا الإنسان.
- الثاني: أننا نحكم على الشَّخص بحسب قوله وفعله لا بحسب ما يؤول إليه حاله يوم القيامة.
- الثَّالِث: أنَّه قصَّرَ بالتَّعَلُّم، فهو مؤاخَذٌ على ذلك، وقد يسَّر الله تعالى طرق العِلم.
فكثير من الخوارج والمبتدعة قد اتَّبعوا ما ظنُّوه حقًّا، فلم يرفع عنهم أهلُ العِلمِ اسمَ البدعة والضَّلال لأجل ما يُظنُّ مِن حُسن القصد أو الجهل. لذا قال تقي الدين في بقيَّة كلامه: «فمن لم ينقب عنها أو يستفصل المتكلم بها – كما كان السلف والأئمة يفعلون – صار متناقضاً أو مبتدعاً ضالاً من حيث لا يشعر». [درء تعارض العقل والنقل (2/ 104)]
والفرق بين الجهل والتَّجهِيل أوضحه بمثال:
لو جاء شخص رابع، وسأل عن علماء الأرض، فدلَّه النَّاسُ على الثّالث، فسأل الثَّالثَ عن حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأجابه الثالث بأنَّه قال (يضحك ربُّنا) ومعنى الضَّحِك هو الغضب. فشكَّ الرابع بنفسه وصدَّق كلام الشيخ، وظن أنَّه أعلم الناس بمعاني كلام النَّبيِّ صلى الله عليه وسلَّم، وأنَّ هذا فهم سلفِ الأمَّة وأئمَّتُها، هل يكفر، أم يكون بمنزلته؟
قال تقي الدين: «فإن كان يظن أنه مُتَّبِعٌ سبيلَ المُؤمِنينَ وهو مُخطِئٌ؛ فهو بمنزلة من ظن أنه متبع للرسول وهو مخطئ». [مجموع الفتاوى (7/ 38)]
إلا أنَّ هذا لا يرفع عنه المؤاخذة؟ لا، لأسباب:
- أنَّه مطالب بالتَّحرِّي عمَّن يأخُذُ مِنه العِلم، وهذا لم يتحرَّى التحرِّي الوافي الذي تبرأ فيه ذمَّتُه. فلا يأخذ إلا عن عالِمٍ أو عمَّن ينقُلُ له قولَ العالِم نقلًا صحيحًا.
- أنَّ هذا التفسير المنافي للبديهة مظِنَّةُ الخلل، فعلى مَن سمِعَه -ولو مِن عالِمٍ يثق به- أن يتحرَّى ويُراجِع ويسأل قبلَ أن يُسَلِّم له.
وهنا يتبيَّن لك ما وقع فيه فئام من الناس مِن إعانةٍ على هدمِ الإسلام بتوقيرِهم أهلَ البِدَعِ وإيهامهم الناسَ أنَّ أهل البدع علماء وصالحون، بل أولِياء مقرَّبون، فأعانوا بذلك على بثِّ الضَّلالات والتحريفات والجهالات بين النَّاس، وناقضوا كلام رسول الله صلى الله عليه وسلَّم (يحمل هذا العلم مِن كلِّ خلف عدوله، ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين) وقوله: (أنزِلوا الناس منازلهم)
ويتبيَّن له وجه قول السَّلَف: (من وقَّرَ صاحب بدعة فقد أعان على هدم الإسلام)
احتراز
لا يقولنَّ قائل: إن أئمتنا الجهمية قالوا كقول الثالث، حيث أنهم جاؤوا بمعانٍ لغوية لنصوص الصفات الإلهية، فقالوا (اليد قد تأتي بمعنى النعمة، كقول القائل: فلان له يد علي) وقالوا: (الاستواء له خمسة عشر معنى) … إلخ
وهذا كلام غير سليم، فهناك فروق نحن والجهمية والمتكلم جميعنا يعلمها:
- الجهميَّة ما نبشوا هذه المعاني إلا للفرار مِن إثبات الصِّفات، فليس الأمر منهم خطأ في الفهم، وإنما حالهم حال الثَّاني لا الثالث.
- الجهميَّةُ جاءتهم نصوص الوحي باختلاف ألفاظها وأساليب التعبير فيها، فتعنَّتوا في تحريفها جميعًا، وهذا ليس حال المخطئ والجاهل، بل حال مَن قدَّم عقله على النقل.
- الجهميَّة ردَّ أهلُ العلمِ على شبهاتهم، وهذه الرُّدود معلومة مبثوثة.
- الجهميَّة أصرُّوا على هذه التَّحريفات، وردُّوا على مخالفهم فيها، بل كفَّروه.
فهل هذه حال جاهل أخطأ الفهم؟! لا.
المسألة الثالثة: عدم تعميم نصوص الأئمة في التكفير
أولا:
الذي له الحق في التكفير هو الله تعالى، فهو الذي يحكم بما هو كفر وما هو إيمان، فإذا جاء نص من عالِم في التكفير وجب ردُّه إلى أصله من الوحيين لكي لا يزيع المرء في تطبيقه.
ثانيًا:
ليس كل نص جاء في الوحي فيه حكم بالتكفير في الوحيين حمله العلماء على إكفار كل فرد واقع في المسألة، بل ولا حتى اعتبروا كل هذه النصوص كفرًا ينقل عن الملَّة.
فالتدقيق بنصوص العلماء لتحقيق مقاصدهم من كلامهم أولى.
مثال:
لو قال عالِمٌ: (من قال كذا فقد كفر) فنسأل: لماذا هذا القول كفر مخرج من دين الله؟ فلا يجوز إنزال حكم الكفر على إنسان لقَولِ عالِم دون فهمِ مأخذه.
مثال2:
لو قال عالِمٌ تونسي: (مَن قال إن رسولَ الله باسِلٌ؛ فقد كفر) فكلامه صحيح.
فإذا قال شخص هذا القول عامدًا، واعيًا، متعَمِّدًا، هل يجوز تكفيرُه بناءً على قول هذا العالِم؟ لا، بل لابدَّ أن نفهم مأخذ فتواه أوَّلًا.
فكلمَة “باسِل” في تونس تُقال للشتم، ومعناها السَّخيف، وأما عند غيرهم فتقال للمدح ومعناها الشُّجاع.
فمأخَذُ كلام العالم هو تكفير شاتِم النَّبيِّ صلى الله عليه وسلّم، فإن كان قائل هذه الكلمة لم يقلها شاتما، بل مادحًا؛ كان تطبيق ظاهر كلام العالِم التونسي عليه غلطًا، بل هذا العالِم بنفسه لن يقبل بتكفيره.
مثال3:
تفسير مجاهد {عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا} قال: «يقعد محمدا على العرش»
كثير من العلماء كفر من رفضه، مثل محمد بن أصرم، وأبو بكر المقرئ، وهارون ابن العبَّاس، وغيرهم. فهل يجوز لإنسان إيقاع الكفر على إنسان لمجرِّدِ إنكاره؟
الجواب: لا، بل وجب على مَن أراد أن يكفِّر شخصًا بهذا أن يسأل نفسه، ما مُستَندي في إخراج هذا الإنسان من ملة الإسلام؟ فإذا نظرنَا وجدنا علماء آخرين ممن كفَّروا مَن ردَّ هذا الخبر أبدَوا مناط التَّكفير، فمناط التَّكفير هنا واحد من أمور:
- إنكار العرش، وهو متواتر.
- إنكار استحقاق النبي صلى الله عليه وسلم فضيلة كهذه.
- الظن أن من يجلس على العرش سيصير إلهًا، وهذا جهل بالله وخصائص الألوهية.
أما مَن لَم يتحقق فيه مناظ كفريٌّ فلا يكفُرُ لمجرد الإنكار، بل قد يقال فيه “رجل سوء” -كما نقل الآجرِّي- لمخالفته سبيل السَّلف، أو يكون مبتدعًا كما قال أبو قلابة، أو غير ذلك، لكن لا يكون كافرًا لأجل الإنكار نفسه.
والقصد هنا الانتباه أن عددا من علماء السَّلَف عبَّروا بتكفير منكر الأثر، والحق أن الكفر هنا ليس للإنكار نفسه، فمن لم يتقصى كلامهم ويفهمه مجتمعًا؛ زاغ في التطبيق.
احتراز:
مثل هذا الكلام قد يستغلُّه المرجئة في السفسطة التي يتبنونها بجعلِ جميع كلام أهل العلم في التكفير غير صريح، وغير مفهوم، أو غير مُراد، حتى يصير كلامه لا يمكن أن ينطبق على أحد. أو يقولون إن العلماء قصدوا كذا وكذا مما يُخِرج كلامَ العالِم عن إمكانِ التَّطبيق. وهذا كله لأجل الهوى والإرجاء الذي فيهم, حتى قال قائلهم: (ابن تيمية كفَّرَ أناسًا لأنه كان غاضِبًا) وقالوا (السلف قالوا “هذا كفر” لتخويف الناس منه) ومثل هذا الكلام الفارغ والتَّلاعب.
أما مرادُنا نحن هو التَّحرُّز من إيقاع الكفر بلا بينة من الوحي، والتحرز من تطبيق كلام العلماء على غير مرادهم.
ثالثًا:
كلام أهل العلم في التكفير ليس بالضرورة يقع على كل فرد واقع في هذا الكفر، مثال عليه:
قال الإمام أحمد: «من قَالَ الخمر حلال فهو كافر يستتاب؛ فإن تاب، وإلا ضربت عنقه.». [أحكام أهل الملل والردة (ص484)]
وقال ابن المبارك: «من قَالَ الخمر حلال فقد كفر». [أحكام أهل الملل والردة (ص484)]
ومعلوم أن قدامة بنَ مضعون استحلَّ الخمر فلَم يكفره الصحابة، فهل وجب إلزامه الكفرَ لقول العلماء السابق، أم وجب حمل كلام العلماء على محمل موافق للصحابة؟ لا شك أن الصواب الثاني، فيقال: إنَّ العلماء أرادوا بيان الحُكم مِن حيث أصلُه، وقد يتخلف الحكم بتخلُّف شرطه أو إذا اعتراه مانع.
ولهذا قال ابن قدامة معلِّقًا عن كلام أحمد: «وهذا محمول على من لا يخفى على مثله تحريمه». [المُغني (9/ 12)]
مع أن عبارة أحمد واضحة جدًا فهي أسلوب شرط، وأسلوب الشرط يقتضي العموم، ومع هذا لم يكن التطبيق حملُه على العموم.
قال تقي الدين: «فقد تبين أن هذا القول كفر ولكن تكفير قائله لا يحكم به حتى يكون قد بلغه من العلم ما تقوم به عليه الحجة التي يكفر تاركها». [مجموع الفتاوى (11/ 413)]
فصل
ولهذا استقر الحنابلة في معتمد المذهب على التفريق بين العالِم والمقلِّد
«قال المجد [ابن تيمية] رحمه الله: كل بدعة كفرنا فيها الداعية، فإنا نفسق المقلد فيها، كمن يقول بخلق القرآن، أو أن علم الله مخلوق، أو أن أسماءه مخلوقة، أو أنه لا يرى في الآخرة، أو يسب الصحابة تدينا، أو أن الإيمان مجرد الاعتقاد، وما أشبه ذلك.». [الانتصار لحزب الله الموحدين (ص48)]
«واختيار الشيخ تقي الدين في الصفات: أنه لا يكفر الجاهل، وأما في الشرك ونحوه: فلا». [الانتصار لحزب الله الموحدين (ص47)]
قال ابن مفلح: «ومن قلد في خلق القرآن ونفي الرؤية ونحوهما فسَقَ، اختاره الأكثر». [الفروع وتصحيح الفروع (11/ 337)]
قال المرداوي: «وَالْأَشْهر عَن أَحْمد وَأَصْحَابه يكفر الداعية، وَلَا يكفُر من لم يُكَفِّر من كفرنَاهُ على الْأَصَح. زَاد الْمجد: وَلَا يفسق». [التحبير شرح التحرير (8/ 3919)]
«وَقَالَ صَاحب ” الْمُحَرر “: ” وَالصَّحِيح أَن كل بِدعَة كفرنا فِيهَا الداعية، فَإنَّا نفسق الْمُقَلّد فِيهَا كمن يَقُول بِخلق الْقُرْآن، أَو بِأَن ألفاظنا بِهِ مخلوقة، أَو أَن علم الله مَخْلُوق، أَو أَن أسماءه مخلوقة، أَو أَنه لَا يرى فِي الْآخِرَة، أَو الصَّحَابَة تدينا، أَو أَن الْإِيمَان مُجَرّد الِاعْتِقَاد، وَمَا أشبه ذَلِك، فَمن كَانَ عَالما فِي شَيْء من هَذِه الْبدع يَدْعُو إِلَيْهِ، ويناظر عَلَيْهِ، فَهُوَ مَحْكُوم بِكُفْرِهِ، نَص أَحْمد على ذَلِك صَرِيحًا فِي مَوَاضِع.». [التحبير شرح التحرير (8/ 3923)]
المسألة الرابعة: عدم التوسع في التكفير، ولا في الإعذار
إن التَّوسُّع في التَّكفير لَمَّا وقعت فيه بعض الطوائف؛ أفشلها الله وأذهبها، وأمرنا بمفارقتها، فقال: {وَلَا تَنَٰزَعُواْ فَتَفۡشَلُواْ وَتَذۡهَبَ رِيحُكُمۡ} وقال: {إِنَّ ٱلَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمۡ وَكَانُواْ شِيَعٗا لَّسۡتَ مِنۡهُمۡ فِي شَيۡءٍۚ إِنَّمَآ أَمۡرُهُمۡ إِلَى ٱللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَفۡعَلُون}
والتَّوسُّع بالإعذار كذلك مخالفٌ لنصوص الوحي وعمل السلف، وقد قال تعالى {قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُواْ أَوْلَادَهُمْ سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُواْ مَا رَزَقَهُمُ اللهُ افْتِرَاء عَلَى اللهِ قَدْ ضَلُّواْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ} فأثبت لهم الضلال مع سفههم، وهي في قوم عاشوا قبل النبي أصلا.