الرد على من زعم أن العلماء فسروا {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} إلا ليعرفون.

بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد

قال قائل إن العلماء فسروا الآية {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} إلا ليعرفون.

والسؤال: من هم؟ هل هم أهل السنة أم المرجئة الذين لا يرون الأعمال من الإيمان؟ بينما العلماء فهم مجمعون أن الإيمان قول وعمل، إيمانا بهذه الآية وغيرها.

هناك رواية عن مجاهد في تفسير إسحاق البستي «حدثنا قتيبة، نا الحجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ ‌إِلَّا ‌لِيَعْبُدُونِ} ‌ليعرفوني»
وهذه الرواية لا تصح فابن جريج يدلس، وقد بيَّن البرديجي أن ابن جريج لم يسمع من مجاهد إلا حرفًا واحدًا.

وفي المجالسة وجواهر العلم (2/ 93) «225 – حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبِي يَقُولُ: نَا يَحْيَى بْنُ ضُرَيْسٍ، عَنْ عَبْدِ الْوَهَّابِ بْنِ مُجَاهِدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِ اللهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ والإنس ‌إلا ‌ليعبدون}؛ قَالَ: ‌لِيَعْرِفُونِ»

وعبد الوهاب بن مجاهد متروك الحديث واتهمه الثوري بالكذب، فلاتصح هذه الرواية بحال.

ولا شك أن المفسرين ينقلون مثل هذه الأقوال على الرغم من ضعفها.

 

الله تعالى قال يعبدون: فلماذا يقول يعبدون ويريد بها يعرفون؟ والكلمة واضحة لا حاجة إلى حرفها عن ظاهرها !

قال تعالى { وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ} هل يريد منهم أن لا يعرفوا إلا الله؟
وقال: { أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ} هل معناها (ما تعرفون من بعدي قالوا نعرف إلهك)؟
وقال {قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ} هل معناها (ألا نعرف إلا الله)؟
وقال { وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ} هل معناها (وعرف الطاغوت)؟
وقال { مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا} هل معناها (ما تعرفون من دونه إلا أسماءً سميتهموها)؟
وقال: { وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} هل معناها (ألا تعرفوا إلا إياه)؟

هذا لا يستقيم، بل هو تحريف لا يشك به عاقل.

 

نأتي إلى أقوال العلماء

قَالَ الشَّافِعِيُّ قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ ‌إِلا ‌لِيَعْبُدُونِ} – وعلق الشافعي قائلا- : خَلَقَ اللَّهُ تَعَالَى الْخَلْقَ لِعِبَادَتِهِ [الأم للشافعي (4/ 167)]

وقال أمير المحدثين إمامِنا البخاري، قال في صحيحه: «‌إِلا ‌لِيَعْبُدُونِ} مَا خَلَقْتُ أَهْلَ السَّعَادَةِ مِنْ أَهْلِ الْفَرِيقَيْنِ إِلَّا لِيُوَحِّدُونِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: خَلَقَهُمْ لِيَفْعَلُوا، فَفَعَلَ بَعْضٌ وَتَرَكَ بَعْضٌ». صحيح البخاري (6/ 139 ط السلطانية)

وقال ابن قتيبة «{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ ‌إِلا ‌لِيَعْبُدُونِ} يعني المؤمنين منهم؛ أي ليوحِّدوني». غريب القرآن (ص422)

طبعا قوله يوحدون ليس حَرفا للكلمة عن معناها، بل ذلك لأن العبادة إذا انتابها شرك كانت باطلة، فكل أمر بالعبادة يتضمن الأمر بالتوحيد، فإذا قال (اعبدوني) أي اعبدوني وحدي.

وقال الطبري: «وأولى القولين في ذلك بالصواب القول الذي ذكرنا عن ابن عباس، وهو: ما خلقت الجنّ والإنس إلا لعبادتنا، والتذلل لأمرنا». تفسير الطبري = جامع البيان ط دار التربية والتراث (22/ 445)

ولولا خشية الإطالة لجمعت لكم من أقوال أصحابنا أهلِ السنة ما يطول ذكره. لكن في ما أوردته كفاية لبيان تطاول هذا الشخص على كتاب الله، ثم على أهل العلم.

 

فصل

وزعم هذا الزاعم أن النبي ﷺ قال كما في صحيح البخاري (أنا أعلمكم بالله) ولم يقل أعبدكم.

هكذا قال، فهذا دليل له أن الخلق خلقوا للمعرفة.

ولكنه حرف الحديث، فالحديث هكذا

20 حَدَّثَنَا ‌مُحَمَّدُ بْنُ سَلَّامٍ قَالَ: أَخْبَرَنَا ‌عَبْدَةُ، عَنْ ‌هِشَامٍ، عَنْ ‌أَبِيهِ، عَنْ ‌عَائِشَةَ قَالَتْ: «كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَمَرَهُمْ أَمَرَهُمْ مِنَ الْأَعْمَالِ بِمَا يُطِيقُونَ، قَالُوا: إِنَّا لَسْنَا كَهَيْئَتِكَ يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ اللهَ قَدْ غَفَرَ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ، فَيَغْضَبُ حَتَّى يُعْرَفَ الْغَضَبُ فِي وَجْهِهِ، ثُمَّ يَقُولُ: إِنَّ أَتْقَاكُمْ وَأَعْلَمَكُمْ بِاللهِ أَنَا»

فالحديث كان عن الأعمال، لا عن المعرفة

والنبي ﷺ قال «أتقاكم» ‌وَالتَّقْوَى ‌هِيَ فِعْلُ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَتَرْكُ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ.

فالرجل حرف الحديث لينصر مذهبه.

 

ثم أورد قوله تعالى {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا} وزعم أن معنى الآية أن الله خلق كل شيء لنعرفه، لا غير.

فأين هو من قول الله تعالى {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا}

فهذه طريقة كل مبتدع أنهم يجعلون القرآن عضين، يقسمونه أعضاء، فيؤمنون ببعض ويكفرون ببعض، أو يهملون بعضًا ، فالإيمان قائم على ركنين، قول وعمل، فأتي هذا الشخص بما يدل على جزء من ركن القول، ألا وهو المعرفة، وأهمل ما يدل على الركن الثاني ألا وهو العمل.

والله المستعان

التسجيل في الجريدة الإلكترونية

عند التسجيل ستصلك مقالات الشيخ الجديدة, كل مقال جديد يكتبه الشيخ سيصلك على الإيميل

Visited 2,074 times, 1 visit(s) today
الرد على من زعم أن العلماء فسروا {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} إلا ليعرفون.
Scroll to top