بسم الله
لن أتحدث عن فضل حفظ القرآن، فأنت ما جئت هنا إلا وأنت تدرك قيمة هذا الأمر. فهدفي الآن هو أن نضع الأسس لتحقيق هذا الهدف بطريقة عملية ومنظمة
علينا أولا معرفة كيف يعمل دماغ الإنسان في عمليات الحفظ؟
الذاكرة الإنسانية تنقسم إلى نوعين: قصيرة الأمد وطويلة الأمد. الذاكرة طويلة الأمد تخزن المعلومات التي نحتفظ بها لفترات طويلة، حتى لو لم نستخدمها بشكل مستمر، مثل اسم والد والدتك. مع أنك لا تتحدث عن اسمه بشكل متكرر، إلا أن استرجاعه سهل ودون جهد، لأن هذه المعلومة محفورة في ذاكرتك طويلة الأمد. أما في حالة الأسماء التي تسمعها بشكل عابر أو الأشخاص الذين تتعرف عليهم لفترات قصيرة، فإنها تخزن غالبًا في الذاكرة قصيرة الأمد، ولهذا من السهل أن تنساها بعد فترة قصيرة.
فالدماغ يخزن المعلومات أولا في الذاكرة القصيرة، ثم يعمل على فلترة هذه المعلومات، فالذي يعتبر أنه محتاج له؛ ينقله إلى الذاكرة طويلة الأجل، وأما ما يعتبره لا حاجة له؛ ينساه.
طيب ما المعيار الذي على أساسه يعتبر هذه المعلومة مهمة أم لا؟ الجواب: هو ربطها بعمليات أخرى، أو بمعنى آخر: تكرارها واستخدامها.
وكل ذلك سنحاول الكلام عنه.
قياس القدرة الحفظية ووضع الخطة
عليك أن تحدد قدرتك الحفظية، ثم تضع لنفسك خطة على هذا الأساس، ففرغ من وقتك ساعة وحاول أن تحفظ أكبر قدر تستطيعه من سورة تكون لا تمر عليك كثيرًا، ثم انظر كم حفظت من الصفحات. هذا القدر الذي حفظته خلال ساعة قسمه إلى أربعة، فيكون هذا القدر الواجب عليك كل يوم.
لماذا قسمناه إلى أربعة؟ لأن الكم الكبير الذي حفظته في ساعة ستنساه في ساعة، ونحن نريد أن نثبِّت الحفظ.
وستكون الخطة أن تحفظ أول جزء بهذا القدر اليومي، ثم تزيده قليلا في الجزء الثاني إذا وجدت نفسك قويًا، أو تقلله إذا وجدت نفسك تنسى.
طريقة الحفظ
سنستخدم للحفظ ثلاثة أساليب
الأول: الحفظ البصري اللفظي
قبل أن تبدأ الحفظ حاول فهم الصفحة مستعينا بتفسير سهل كتفسير مقاتل أو تفسير البغوي أو ابن كثير.
تبدأ الحفظ بأن تقرأ الآية مرتين أو ثلاثة، ثم ترددها من حفظك، ثم تقرأ من المصحف، ثم تردد من حفظك، مرة بمرة حتى ترى أنك حفظتها.
إن كانت الآية طويلة عليك فقسمها عند مواضع الوقف في المصحف.
الآن تنتقل إلى الثانية وتعمل نفس الأمر، ثم إذا حفظتها اقرأ الأولى ثم الثانية من حفظك، ولا تعد لقراءة الأولى من المصحف.
ثم الثالثة تعمل معها نفس الشيء، فتحفظها، فتعود للقراءة من الأولى إلى آخر الثالثة.
فإذا أتممت حفظ واجبك، كرره مرة من حفظك، ومرّة من المصحف حتى تتم عشر مرات.
وحاول إذا قرأت من حفظك أن تتخيل شكل الكلمات.
الثاني: الحفظ الكتابي
بعد أن تنتهي من الحفظ البصري اللفظي خذ استراحة ساعة من الزمن، أو أطول بحسب قدرتك، ثم احضر دفترًا خصصه للقرآن، واكتب ما حفظت، ثم قارن بينه وبين المصحف لترى إن كان هناك خطأ ما، وإن شئت فاسمعها مسجلةً وتبِّع مع كتابتك.
إن وجدت خطأ كرر عد لحفظ ما أخطأت به وكرره نظرًا وغيبًا أكثر من مرَّة.
ثم عاود الكتابة بعد استراحة أخرى.
الحفظ السمعي
لماذا تجد شخصًا لا يستطيع حفظ كلمة من كتاب، بينما يحفظ أغاني لو كتبها لخرجت في ألف صفحة، ولا يخطئ بحرف واحد منها، بل إذا أخطأتَ أمامه في كلمة في هذه الأغاني فسينزعج ويصحح لك؟
الذاكرة تنقسم باعتبار آخر، ألا وهو الذاكرة السمعية والذاكرة البصرية. فهناك أشخاص تكون ذاكرتهم السمعية أقوى، مما يجعلهم قادرين على حفظ ما يسمعون بسهولة أكثر مما يقرؤون. خاصة إذا ما ارتبط المسموع بالعاطفة والنغم والإيقاع، فهذا يُسَهِّل عملية التذكر.
ولهذا تجد الأغاني تُخزن في الذاكرة طويلة الأمد بشكل أكثر ثباتًا بسبب تكرارها المستمر وارتباطها باللحن، أضف إلى ذلك الارتباط العاطفي بالكلمات. كل هذه العناصر تعزز من ترسيخ المعلومة في العقل، وتصبح جزءًا من الذاكرة العميقة، ولهذا تجد أنه حتى من تاب من السماع، إذا سمع طرفا من أغنية كان يحفظها فإنها تتردد في دماغه.
ولماذا الذين يحفظون الأغاني يصححون لغيرهم، بل قد ينزعجون إذا ما غيرهم أخطأ فيها؟
ذلك أنها حُفرَت في ذاكرتهم كقالب ثابت، يجعل الدماغ حساسًا لأي خطأ يشذ عنه،
في المقابل، الشخص الذي يعتمد بشكل أكبر على الذاكرة البصرية قد يجد صعوبة في حفظ النصوص السمعية إذا لم يتمكن من رؤيتها مكتوبة أو من تنظيمها في عقله بشكل بصري. هذه الفروقات في أنماط الذاكرة تفسر سبب قدرة البعض على حفظ كلمات الأغاني بدقة متناهية بينما يعانون في تذكر نصوص أخرى مثل تلك الموجودة في الكتب الدراسية.
إضافة إلى ذلك، الذاكرة السمعية تتأثر بالإيقاع والتكرار، مما يجعل الأغاني أكثر تعلقًا بالذاكرة مقارنة بالنصوص التي تعتمد فقط على القراءة. وعندما يحدث خطأ في كلمة في أغنية، قد يشعر الشخص بالانزعاج بسبب التعود الشديد على النسخة الصحيحة المتكررة، ما يجعله ينتبه لأي تغيير أو خطأ، وقد يصبح تصحيح هذا الخطأ نوعًا من الدفاع عن الصورة الثابتة في ذاكرته.
نحن ذكرنا الغناء لأنه بلاء شائع، فيصح أن يكون مثالًا لفهم المبدأ الذي يعمل به العقل في هذا الجانب.
بالنسبة للقرآن يمكن أن نستغل هذه القدرة العقلية، ولكن مع التنبيه أن الأفضل أن تجعل الحفظ السمعي مساعدًا للبصري، لأن الاعتماد على السمعي فقط يحتاج وقتًا أكبر، ولا يكون جادًّا، فلا يكتفي به إلا كبار السن ومن عنده إشكالية في القراءة، أو لا يستطيع تخصيص وقت للحفظ.
والآلية كالتالي:
تختار قارءك المفضل، ولابد من أن يكون متقنًا، فتسمع لتلاواته، وتدمنها إدمانًا، وقد تختار لكل سورة قارءًا، بشرط أن يكون متقنا لكيلا تحفظ أخطاءه.
حاول اختيار قراءة سريعة، وقد تقوم أنت بتسريع التلاوة عن طريق البرامج.
بالنسبة للسور الطويلة فيمكنك من خلال موقع www.archive.org أن تحمل التلاوة مقسمة إلى صفحات، فتسمع لكل صفحة على حدى.
واسمعها في البيت والشارع والنادي وقبل النوم وبعد النوم، وحاول أن تردد مع القارئ.
تنبيه: من يكتفي بالحفظ السماعي، ففي أول مرَّة لابد من أن تسمعها مع القراءة من المصحف، لتنتبه للكلمات جيدًا، واسمعها كثيرًا،
نقل المحفوظ إلى الذاكرة طويلة الأجل
القراءة في الصلاة
اعمل جدولًا فيه عمودين، عمود للمحفوظ الجديد، الجديد هو ما حفظته آخر ثلاثة أيام، والقديم هو من أول القرآن، وعمود للمحفوظ القديم.
وقسم ذلك على صلواتك.
وأما وردك فاجعله من المصحف.
المراجعة البصرية
وهي إمرار عينك على القرآن، تقرأ بعينك فقط، دون أن تردد الكلمة بلسانك ولا حتى في ذهنك، بل تفرأها فقط بعينك وتفهمها بذهنك.
وهذه الطريقة تحتاج إلى تدريب خاص، حتى تصل إلى مرحلة سريعة فيها فتستطيع أن تراجع الجزء في دقائق قليلة. وكلما أسرعت دل ذلك على رسوق الكلام في ذهنك ، وسهل ذلك عليك مراجعة أكبر قدر.
نصائح
لا تتشتت
فتسأل كل يوم عن طريقة، وتغير كل يوم أسلوبا، فهذا سيطيل عليك الطريق ويشعرك بالفشل.
لا تفقد الأمل
الطريق إلى حفظ القرآن قد يكون طويلاً، لكن المثابرة هي المفتاح. لا تقلق، خذ وقتك وكرر المحاولات. من الطبيعي أن تجد صعوبة في أول الطريق، وأن تمر بفترات ضعف في الهمة، لكن استمر في المحاولة ولا تفقد الأمل.
ابحث عن شريك
أو مجموعة تساعدك في التحفيز والمتابعة. وجود شخص يشجعك ويذكرك يساهم بشكل كبير في الالتزام والنجاح.
والحمد لله رب العالمين