من كان ‌شيخه ‌كتابه

يتداول عدد من الناس عبارات مثل: (من كان شيخه كتابه كان خطأه أكثر من صوابه) هذه العبارة بحثت عن قائلها فلم أجدها منسوبة لشخص معروف، بل ولا وجدتها في مصدر قديم، وإنما يبدو أنها ظهرت حديثا. ووجدت عددا من أهل العلم انتقدها، وسأنقل بعض كلامهم لاحقا.

وأكثر من يستخدمها: مجموعات يريدون حصر الدين بشيوخهم ورَدَّ ما جاء في كتب أهل العلم إذا خالف شيوخهم.

فكثير يقولها ويريد أن الدراسة على الشيخ تعطي فهما صحيحا، أما قراءة الكتاب ينتج عنها أخطاء. مع أن كثير من الشيوخ اليوم عندهم من الأخطاء ما الله به عليم، بل هم مَجمَع أخطاء متراكمة جيلا بعد جيل، وذلك لبعدهم عن كتب الأوائل بحجة مثل هذا السجع.

لا أقول هذا إنكارا لفضل الأخذ عن العلماء، ولا لتجرئة من لا يفهم أن يأخذ مباشرة من الكتب، ولكن لو سألنا السلفي: على من قرأت مجموع الفتاوى وأخذته شرحًا؟ ونقول للأشعري: عمن تلقيت تفسير الرازي قراءة وشرحا؟ ونقول لكليهما: عمن تلقيت فتح الباري أو المغني أو المحلى قراءة وشرحا؟ فلا جواب عنده. فنقول له: فأنت بالنسبة لهذه الكتب صحفي شيخك كتابك، فكيف تنقل منها؟ وحتى إن كان تلقى واحدا منها عن شيخ فنسأله: وشيخك تلقاها شرحا عن من؟ فسينقطع.

فنقول له: إن أردت تحريم الأخذ عن الكتب فعليك أن تبدأ بنفسك وتهجر هذه الكتب وتكتفي بما تلقيته عن شيوخك.

 

جاء عن سعيد بن عبد العزيز: «لا تأخذوا العلم عن صحفي ولا القرآن من ‌مصحفي». الجرح والتعديل لابن أبي حاتم (2/ 31)

قلت: هذا حق، فالذي لا يأخذ إلا عن الكتب –خاصة في الزمان الماضي- فإنه سيقرأ خطأ بسبب عدم التنقيط وسوء الخط، أو يقرأ عبارة فلا يعرف ما معناها في اصطلاح أهل هذا الفن، وبسبب عدم توفر كتب تضبط له مسائل العلم على طريقة أهله، فيخطئ كثيرا.

فأما من كان قد أخذ الأصول وتعلم فهذا له أن يقرأ في الكتب ويأخذ عنها. ويخالف بدع الشيوخ وأخطائهم إذا تبين له من الكتب.

بل إن هؤلاء الشيوخ أنفسهم يشرحون الشرح، ثم لمَّا يُفرَّغ على الورق ويراجعونه؛ يغيرون فيه كثيرًا ويزيلون ويَزيدون، فيخرج المكتوب أضبط من الإلقاء.

وكم مِن كاتبٍ يُعَدِّلُ في كتابه طبعةً بعد طبعةٍ، فيُعدل في الثانية أخطاء الأولى، وفي الثالثة أخطاء الثانية، فكان الأخذ عن طبعته الثالثة (في بعض المواضع) خيرا في أخذها عنه مشافهة؟ فلو كان لا خير في المكتوب، فلماذا كتب وطبع وعدَّل؟

ثم ماذا عن من أخذ عقيدة أحمد من شيوخ الحنابلة الجدد، وعقيدة الشافعي من الجويني والرازي، وعقيدة أبي حنيفة من تلميذ تلاميذه بشر المريسي، أو من ابن كرام المرمي بالتجسيم؟ هؤلاء كلهم شيوخ، فهل من يأخذ عنهم كان صوابه أكثر مما قد يخطئ فيه لو أخذ من كتب الشافعي نفسه أو كتب أحمد نفسه أو كتب أبي حنيفة نفسه؟ بل صوابه سيكون أكثر من خطئه.

 

أكرر أنه لا شك بأن من اعتمد على الكتب فحسب؛ كان ذلك مجالا واسعا للخطأ، إلا أن المسألة مسألة توفيق ثم فهم بعد أخذ أصول العلم، فلا يُمنع من الأخذ من الكتب.

 

وهذه بعض تقريرات المعاصرين حول المسألة:

 

قال ابن عثيمين

«لا شك أن العلم يحصل بطلبه عند العلماء وبطلبه في الكتب، لأن كتاب العالم هو العالم نفسه، فهو يحدثك من خلال كتابه». مجموع فتاوى ورسائل العثيمين (26/ 197)

وقال:

«هي ثلاث درجات: الدرجة الأولى وهي أعلاها: أن يأخذ من أفواه الشيوخ ويحضر المجالس، وهذه أعلاها بلا شك؛ لأن الإنسان يتأثر بنبرات القول وانفعال المدرس، ويفهم حسب ذلك.
الدرجة الثانية: الأشرطة، الأشرطة تفوته المشاهدة لكنه يسمع الصوت كما هو، وهذا أقل من المشاهدة، لكن فيه خير كثير.
الثالث: الكتاب، وهذا نافع بلا شك.
فهذه ثلاثة طرق، كان في الأول ليس هناك إلا طريقان وهما: المجالسة أو الكتاب، أما الآن والحمد لله صار هذا الوسط.
وأما قول من قال: إن من كان علمه من كتابه فخطأه أكثر من صوابه.
فهذا غير صحيح، يعني: معناه ليس عاماً؛ لأنه يوجد أناس قرءوا العلم بالكتب وحصلوا خيراً كثيراً، لكن القراءة في الكتب تحتاج إلى وقت أكثر وتحتاج -أيضاً- إلى فهم؛ لأن الطالب المبتدئ قد يفهم العبارة على خلاف المقصود به فيضل». لقاء الباب المفتوح (235/ 9)

 

قال ابن باز

«من لم يدرس على أهل العلم، ولم يأخذ عنهم، ولا عرف الطرق التي سلكوها في طلب العلم، فإنه يخطئ كثيرا، ويلتبس عليه الحق بالباطل، لعدم معرفته بالأدلة الشرعية، والأحوال المرعية التي درج عليها أهل العلم، وحققوها وعملوا بها.
أما كون خطئه أكثر فهذا محل نظر، لكن على كل حال أخطاؤه كثيرة، لكونه لم يدرس على أهل العلم، ولم يستفد منهم، ولم يعرف الأصول التي ساروا عليها فهو يخطئ كثيرا، ولا يميز بين الخطأ والصواب في الكتب المخطوطة والمطبوعة.
وقد يقع الخطأ في الكتاب ولكن ليست عنده الدراية والتمييز فيظنه صوابا، فيفتي بتحليل ما حرم الله، أو تحريم ما أحل الله، لعدم بصيرته؛ لأنه قد وقع له خطأ في كتاب، مثلا: لا يجوز كذا». مجموع فتاوى ومقالات متنوعة لابن باز (7/ 239)

 

قال سفر الحوالي

«الحقيقة أن عندنا أكثر من طريقة لطلب العلم، من سماع الأشرطة، ثم الاتصال هاتفياً بصاحب الشريط العلمي، والتأكد من بعض الأسئلة، وبالكتاب وغير ذلك؛ الآن تنوعت الوسائل، والحمد لله! فلنتقِّ الله ما استطعنا، وفي حدود الشرع». دروس للشيخ سفر الحوالي (79/ 48)

 

والله أعلم

 

التسجيل في الجريدة الإلكترونية

عند التسجيل ستصلك مقالات الشيخ الجديدة, كل مقال جديد يكتبه الشيخ سيصلك على الإيميل

(Visited 3٬486 times, 2 visits today)
من كان ‌شيخه ‌كتابه
تمرير للأعلى