الاحتفاء بالذكريات الشخصية كالميلاد والزواج

بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:

قال الله تعالى: {وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ}

حرم بعض أهل العلم الاحتفاء بذكرى بعض المناسبات الشخصية بناء، كاحتفاء المرء بذكرى زواجه أو مَولده أو مولد ابنه، وبنوا هذا التحريم على أمور:

  1. عد هذا العمل بدعة، لم يفعله النبي صلى الله عليه وسلم ولا السلف الصالح.
  2. عدُّ هذا العمل عيدًا.
  3. عدُّه تشبُّه بالكافرين.

وهذه الاعتبارات الثلاثة لا تنهض للقول بتحريمه، وسأذكر الأسباب مختصرة ثم أناقشها:

  1. هذا ليس من أمور الدين؛ لنطبق عليه قواعد البدعة.
  2. هذا العمل ليس عيدًا عامًا، ليكون ليصبح شعيرة تضاهي الأعياد الشرعية، كما هو حال عيد المولد النبوي، وعيد رأس السنة الهجرية.
  3. هذا ليس من خصائص الكافرين، ولا من أصول دينهم، ولا من شعائرهم؛ ليكون عملته تشبهًا بهم.

التفصيل

المسألة الأولى: جعل هذا العمل بدعة

وجه الخطأ في هذا هو أن المحرِّم جاء إلى عادةٍ خارجة عن مسائل الشرع، وطبق عليها قاعدة البدعة. ولو أننا اعتبرنا كل ما لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم بدعة؛ للزمنا الحكم بالبدعة على أكثر عاداتنا، من لباس، وطعام، وشراب، ومدارس، ومشافي، وسجون، ومؤسسات حكومية، ونظم إدارية، ووثائق رسمية.

فالتفريق بين أمور الدين وأمور العادات ضرورة، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد) فالإحداث المردود هو ما كان في أمر الدين، وأما في أمور الدنيا فلا.

بل في أمور مرتبطة في الدين، ما كان من الوسائل لم يعدُّوه من البدع، كمآذن المساجد، وفرشها، وجعل أماكن الوضوء فيها، وتحديد الوقت بين الصلاة والإقامة، وتنقيط القرآن، وتشكيل حروفه…الخ. وكل هذه لم يُدخِلوها في البدع لكونها من الوسائل لا من المقاصد. فكيف تدخل العادات؟

ولهذا قال ابن تيمية: «‌ولهذا كان أحمد وغيره من فقهاء أهل الحديث يقولون: إن ‌الأصل ‌في ‌العبادات التوقيف … والعادات الأصل فيها العفو، فلا يحظر منها إلا ما حرمه، وإلا دخلنا في معنى قوله: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا}  ولهذا ذم الله المشركين الذين شرعوا من الدين ما لم يأذن به الله وحرموا ما لم يحرمه». القواعد النورانية (ص164)

المسألة الثانية: عدم التفريق بين الأعياد العامة والمناسبات الشخصية

هل كل ما يطلق عليه اسم العيد في اللغة يَحرُم؟ للجواب على هذا لابد من تعريف العيد.

قال الخطابي: «وكان بعض أهل اللغة يقول إنما سُمِّي يوم ‌العِيدِ لهذا المعنى لتكرّره وعَوده لأوقاته من السنة». غريب الحديث (1/ 96)

فإن كان كل ما يتكرر حرام، فوجب تحريم الدروس الأسبوعية أو اليومية للمشايخ، ودوراتهم السنوية، وكل شيء بُعاد ويتكرر حرام، فهل يقول هذا أحد؟

كثير من العائلات لهم يوم دوري يلتقون فيه، ومن الناس من عنده يوم متكرر لصيانة سيارته، أو تنظيف بيته، والشركات فيها اجتماعات سنوية وشهرية، وكل هذا مما يتكرر، ولا ارتباط له بالشرع.

كان عبد السلام بن حرب يجلس في كل عام مرة مجلسا للعامة [سير أعلام النبلاء (8/ 336)] ولم نسمع أحدا من أهل العلم قال له هذا عيد لأنك تفعله كل عام، وهو عاش في الزمان الفاضل، فقد مات عام 180هـ. واضرب لهذا أمثلة كثيرة

فوجب التفريق بين حالين: 

الأولى: التكرار والعود لمناسبة عُرفية، أو شخصية، وهذا لا حكم لها ما لم يقترن بها مانع لنفسها، لا لتكرارها.

والثانية: التكرار على أساس تعبدي، أو بما يضاهي التعبُّدي. وهذه لا بد لها من دليل، وإلا كانت بدعة.

فهذه المناسبات الشخصية داخلة في الأول ضرورة.

 

قال ابن تيمية: «و‌‌أصل الضلال في أهل الأرض إنما نشأ من هذين إما اتخاذ دين لم يشرعه الله أو تحريم ما لم يحرمه. ولهذا كان الأصل الذي بنى عليه أحمد وغيره مذاهبهم. أن الأعمال: عبادات وعادات؛ فالأصل في العبادات لا يشرع منها إلا ما شرعه الله؛ ‌والأصل ‌في ‌العادات لا يحظر منها إلا ما حظره الله وهذه المواسم المحدثة إنما نهي عنها لما أحدث فيها من الدين الذي يتقرب به». مجموع الفتاوى (4/ 196)

قاتخاذ مواسم عامة نُهي عنه لأنه حَدَثٌ في الدين يُتقرب به. فأما المناسبات الشخصية، فليست حدثا في الدين، ولا يُتقَرَّب بها.

المسألة الثالثة: هل هذا مِن التشبه بالمشركين؟

أولًا:

لابد من أن نسأل: هل كل فعل بدأه المشركون يحرُم على المسلمين؟

إن قيل نعم، فوجب تحريم كل الصناعات التي عملها الغرب واستعملوها قبلنا، كالكهرباء، والسيارات ووسائل النقل، وأنظمة الكمبيوتر، والإنترنت، وسائر ما فيه من مواقع. ومن ظن هذا فليته يعمل بظنه إن استطاع، ولكن لا تجد من يترك ذلك كراهة التشبه بالكافرين، لماذا؟

لأن الأصل في مسألة التشبه بهم هي ما كان مما يتميَّز به الكافر عن المسلم.

 

قال ابن عبد البر: «يَكْرَهُ ‌التَّشَبُّهَ ‌بالكُفَّارِ ويُحِبُّ مُخالَفتَهم، وبذلك وَرَدَتْ سُنَّتُه – صلى الله عليه وسلم -، وكأنّه أرادَ، واللهُ أعلمُ، أنْ يَفْصلَ دِينَه من دينِهم». التمهيد (3/ 122 ت بشار) فالقضية هنا دينية.

وقال ابن تيمية: «‌لئلا يتشبه ‌بالمشركين في بعض الأمور التي يختصون بها». مجموع الفتاوى (17/ 502)

فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان قد استفاد من تجربتهم في رضاع الغيلة فلم ينه عنه، واستفاد منهم فكرة حفر الخندق، واتخذ الخاتم لأنهم كانوا قد اعتادوا على مراسلات مختومة، ولم يقل هذا تشبه بهم، ولكنه كان ينهى عن التشبه بهم في الصلاة بغير نعال، وفي حلق اللحى، فظهر أن التقليد لهم في الشعائر الدينية، والشعائر العامة لا يجوز.

كذلك في النهي عن تشبه الرجال بالنساء والعكس، فالممنوع منه ما يتميز به كل طرف عن الآخر، وأما الأشياء التي ليست من هذا القبيل فلا تدخل في التشبه. فعمل الخُبز مثَلًا كان يقوم به النساء، واليوم يعمله الرجال، ولم يقل أحد أن هذا تشبه بالنساء، لأنه ليس مما تتميز به المرأة عن الرَّجل.

والعلماء ممن قال بحرمة هذه المناسبات يعلمون ما ذكرتُه، فقد قال الشيخ ابن عثيمين: «التشبه بالكفار هو أن الإنسان يتزيا بزيهم في اللباس، أو في الكلام، أو ما أشبه ذلك، ‌بحيث ‌إذا ‌رآه ‌الرائي ‌يقول: ‌هذا ‌من ‌الكفار، أما ما يشترك فيه المسلمون والكفار فهذا ليس تشبهاً، مثل: الآن لبس البنطلون للرجال لا نقول هذا تشبه؛ لأنه صار عادة للجميع، وأما مسألة السيارات وغيرها فهذه ما فيها تشبه إطلاقاً». لقاء الباب المفتوح (108/ 28)

فننظر إلى هذه المناسبات، هل هي من عائر دينهم؟ هل هي من عباداتهم؟ هل هي مما يتميز به الكافر عن المؤمن؟ الجواب: لا.

ولكن استخدام الشموع مثلًا فهذا لا يجوز لأن الشمعة رمز للحظ عند النصارى.

 

ثانيًا:

بعد ما قدمته أقول: من عادة البشر أنهم إذا ارتبط عندهم شيئان، ذكَّرَهم الأول بالثاني، فمن رأى حادثةً في موقع، فإنه يتذكرها كلما مر منه، وكذلك إذا ارتبط الحدث بتاريخ يحفظه، فإنه سيتذكر ذلك الحدث كل ما مر معه هذا التاريخ، فقد تُحدثُ هذه الذِّكرى في نفسه حُزنًا أو فرحًا أو شوقًا، ولهذا قالوا: «‌العيد: ما يعتاد (86) من ‌الشوق والحزن» [الزاهر في معاني كلمات الناس (1/ 292)] وهذا الشعور يد يتولد عنه عمل، ما فلو تذكر شخصا، قد ينظر في رسائله وصوره، أو تذكر أستاذًا فقد ينظر في كتابه، فكذلك إذا تذكر يوم زواجه، أو ولادة طفله، فإنه قد يحدِّثُ بها، ويتذكر تفاصيل ذالك اليوم.

من هنا نسأل: من أول من بدأ يحتفل بهذه الذكريات؟ إن قيل: الكافرين، فالدليل مطلوب، فقد يكون العكس، وقد لا يكون طرفا سبق آخر، وإنما نمت هذه المسألة مع نمو المجتمعات واعتنائها بتواريخ الأيام.

خاتمة

نخلص إلى أن الاعتبارات التي بُني عليها التحريم لا تنهض له، ولا تقوم بها الحجة القاطعة على خلق الله. أما مَن ألزم الناس باتباع رأي فلان وعلان، فنذكره بحديث ‌‌عدي بن حاتم، إذ قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم … وسمعته يقرأ في سورة براءة: {اتخذوا أحبارهم ورهبانهم ‌أربابا من دون الله} قال: «أما إنهم لم يكونوا يعبدونهم، ولكنهم كانوا إذا أحلوا لهم شيئا استحلوه، وإذا حرموا عليهم شيئا حرموه» فكان الأولى هو عدم التشبه بالمشركين في هذا الذي ذمهم الله عليه.

فلا يزال الناس من هذه الأمة يختلفون في مثل هذه الأبواب، فخيرهم من علم الحق وجعا إليه، وفي من تحرى الحق فلم يصبه خير، لكن شر الناس الجاهل الذي يقاتل على رأي غيره.

والحمد لله رب العالمين

التسجيل في الجريدة الإلكترونية

عند التسجيل ستصلك مقالات الشيخ الجديدة, كل مقال جديد يكتبه الشيخ سيصلك على الإيميل

(Visited 1٬287 times, 1 visits today)
الاحتفاء بالذكريات الشخصية كالميلاد والزواج
تمرير للأعلى