أصول الإلحاد والرد عليها

إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ، نَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ، فَلا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِل، فَلا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.

أما بعد: فقد برز في العقود الأخيرة فئام من الناس يدعون إلى مذهب كفري جديد نوعًا مان وهو الإلحاد. وقد وصل وباؤه إلى ديار الإسلام في العقود الأخيرة من خلال بعض المبتعثين الذين رحلوا إلى بلاد الغرب لطلب العلوم الدنيوية، فعادوا بأفكار إلحادية. ثم تفشت أفكار الملاحدة، وانتشرت في مجتمعاتنا مع الانفتاح على فضاء الشبكة العنكبوتية، وساعد على انتشارها عوامل، كجهل العوام بأصول دينهم، وضعف تدريس دلائل النّبوّة، وإيقاف إقامة حد الرّدّة.

وسأذكر في هذا البحث -بإذن الله تعالى- أهم أصول الإلحاد، والرد عليها، والله ولي التوفيق.

 

 

المبحث الأول: تعريف الإلحاد.

الإلحاد لغةً:

المَيل عن القصد، ويأتي بمعنى الاعتراض، كما في قول المولى: ﴿ومن يرد فيه بإلحاد﴾، وقيل هو الظلم([1]). وقال معمر بن المثنّى: “«وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً» (28) أي معدلا واللّحد منه والإلحاد” ([2]). وقال عبد الرزاق الصنعاني عَنْ مَعْمَرٍ , عَنْ قَتَادَةَ , فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {يُلْحِدُونَ} قَالَ: ” الْإِلْحَادُ: التَّكْذِيبُ” ([3]) .

 

الإلحاد في الاصطلاح:

استخدم أهل العلم كلمة الإلحاد لوسم بعض الطوائف الباطنيّة، كالقرامطة، وبعض المتفلسفة، كابن سينا، ولا يسمون بالإلحاد إلا مَن يرون كفره. كما قال العلامة شمس الدين السفاريني: “قَوْلِ الْمَلَاحِدَةِ الْقَائِلِينَ بِقِدَمِ الْعَالَمِ وَأَنَّهُ لَمْ يَزَلْ، وَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَخْلُقْهُ بِقُدْرَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ، بَلْ مَنْ أَثْبَتَ مِنْهُمْ وُجُودَ الرَّبِّ جَعَلَهُ لَازِمًا لِذَاتِهِ أَزَلًا أَبَدًا كَمَا يَقُولُ ابْنُ سِينَا، وَالنُّصَيْرُ الطُّوسِيُّ، وَأَتْبَاعُهُمَا مِنَ الْمَلَاحِدَةِ الْجَاحِدِينَ لِمَا اتَّفَقَتْ عَلَيْهِ الرُّسُلُ وَالْكُتُبُ وَشَهِدَتْ بِهِ الْعُقُولُ وَالْفِطَرُ.”([4]). وقال: “وَهَؤُلَاءِ الْبَاطِنِيَّةُ هُمُ الْمَلَاحِدَةُ الَّذِينَ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّهُمْ أَكْفَرُ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى” ([5]).

 

المبحث الثاني: الفرق بين الإلحاد قديمًا والإلحاد حديثًا.

كما سبق ذِكره، أن العلماء وصفوا الفلاسفة والباطنيّة بالإلحاد، والمتتبع لأقوال المتقدمين والمتأخرين يجدهم يطلقون الإلحاد ويريدون الزندقة، كما قال الباقلاني: “وما يدّعيه أهلُ الإلحاد وشيعتُهم من منتحلي الإسلام” ([6]) فوصفهم بأنهم ينتحلون للإسلام.

وهناك فرق بين ذلك الإلحاد، وبين الإحاد المعاصر، فالفلاسفة الذين وُصفوا بالملاحدة كانوا يقولون بقِدَم العالم، كما قال المقريزي في تجريد التوحيد: “ومنه شرك الملاحدة القائلين بقدم العالم وأبديّته، وأن الحوادث بأسرها مستندة إلى أسباب ووسائط اقتضت إيجادها، ويسمّونها العقول والنفوس.” ([7]). بينما الملاحدة الجدد يقولون بأنّه حادث، لكن بدون خالق، وإنما خلق نفسه بنفسه. مع أن ستيفن هاوكينغ قال ما معناه أن العالَم لا بداية له، ولكنه تناقض في هذا عندما قال بأن الكون خلق نفسه([8]) وهذا يعني وجود بداية.

وتشابهوا في كون “العالم في الأزل كان أجزاء مبثوثة تتحرك على غير استقامة فاصطكت اتفاقا فحصل عنها العالم بشكله الذي تراه ودارت الأدوار وكرت الأكوار” ([9]).

لكن هناك خلاف في كون الدهريّة يُنكرون الخالق أم لا، فيقول الخوارزمي عنهم: “ولست أرى أن هؤلاء ينكرون الصانع” ([10]). بينما ابن الجوزي يقول: ” قد أوهم إبليس خلقا كثيرا أنه لا إله ولا صانع وأن هذه الأشياء كانت بلا مكون وهؤلاء لما لم يدركوا الصانع بالحس ولم يستعملوا فِي معرفته العقل جحدوه”([11]).

 

خلاصة الأمر: أن هناك علاقة ثيقة بين مقالة الدهريّة ومقالة الملاحدة المعاصرين، وقد أبطل الله تعالى مقالتهم بقوله: ﴿وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ﴾ ([12]). فكلامهم كله مبني على إطلاقهم العنان لمخيلتهم، ثم اقتناعهم بظنون ظنوها أو ظنها غيرهم.

وسأذكر بعض أصولهم، مع الرد عليها.

 

 

أصول الإلحاد

الأصل الأول: إنكار الخالق.

وهذا الأصل هو أساس نِحلتهم، فهم يقولون أن الكون خلق نفسه بنفسه، ووضعوا لذلك افتراضان:

الافتراض الأول: أن الكون أنشئ من العدم. وهذا القول، ذكره يكفي عن الرد عليه، إذ أن العاقل لا يمكن أن يتصور حادثا بلا مُحدث. بل حتى غير العاقل لا يمكن أن يتصور ذلك، فلو أننا لمسنا مجنونا من ظهره، ثم قلنا له أنه لا أحد لمسك؛ لم يصدّق. ولو أننا اصدرنا صوتا بجانب قطة حديثة الولادة؛ لوجدناها تنظر بحثًا عن فاعل الصوت، فهذه ضرورة عقليّة، والضرورات العقلية غير معرّضة للنقض، كقولنا بأن الواحد أقل من الإثنين، وأن المربع زواياه قائمة، فكذلك من الضرورة العقلية أن الموجود لابد له من مُوجد. وفي هذا يقول ابن الجوزي -رحمه الله- : “وهل يشك ذو عقل فِي وجود صانع فَإِن الإنسان لو مر بقاع ليس فيه بنيان ثم عاد فرأى حائطا مبنيا علم أنه لا بد لَهُ من بان بناه فهذا المهاد الموضوع وهذا السقف المرفوع وهذه الأبنية العجيبة والقوانين الجارية عَلَى وجه الحكمة أما تدل عَلَى صانع”([13]).

الافتراض الثاني: أن هناك حضارة سابقة أنشأتنا، أو كائنات فضائية [كما قال داوكينز] هي التي أنشأتنا ([14]). وهذا كلام أكثر بطلانًا من الأول، إذ أنه يقتضي التسلسل في الفاعلين، وهذا باطل، فإنهم إن قالوا أن هنات حضارة أوجدتنا؛ نقول لهم: ومن أوجد هذه الحضارة، فإن قالوا: أوجدتها حضارة قبها؛ نقول: فمن أوجد التي قبلها… وهلم جرًا. فهل سيصلون إلى نقطة بداية؟ إما أنهم سيقولون أنه لا بداية، وهذا محال. أو سيقولون أن هناك بداية، وهذا يقتضي وجوب تعليل هذه البداية، كيف كانت! فإما أن يعودون إلى الإفتراض الأول الذي أبطلناه، أو يقولون أن البداية قائمة بذاتها، فنقول لهم: بالتالي هذا الفاعل الأول القائم بذاته هو الله تعالى.

 

الأصل الثاني: القول بأن الإنسان اخترع فكرة الإله.

بعد أن أثبتنا أنه لا يمكن للعقل السليم فكريًا وعلميًا أن  ينكر وجود خالق للكون، وجد هؤلاء أطروحة هشّة للرد على ما قلناه، فالفيلسوف الملحد “فويرباخ”: ” الإنسان الشقي يبحث عن السعادة المنشودة وإذا لم يجدها في ذاته ولا في الأرض، يتوهم أنه وجدها في شخص غريب عن الدنيا اختلقته مخيلته ويسميه الله”([15]).

وهذا افتراض فلسفي جدلي لا أكثر، وإذا وضعناه في ميزان الحقيقة؛ نجده باطل. وفيما يلي وجوه إبطاله:

الوجه الأول:

لو صح أن الإنسان هو الذي صوّر لنفسه إلهًا، لكان الأصل فيه أن لا يجعل لنفسه قيودًا تمنع عنه عددًا من ملذّات الحياة التي يتلذذ بها غير المؤمنين، كالزنا، وشرب الخمر، وتربية الكلاب في البيت، ولبس الذهب للرجال، وغير ذلك. كذلك لو صح كلامه لما افترض الإنسان على نفسه أنواعًا من التّكاليف يكلف نفسه بها دون منفعة في دنياه، كالصلوات، والحج، والصيام، وغير ذلك، ثم يقولون أن من لم يلتزم بهذا فمصيره نار يُحرق بها! وإنما المنطقي أن يبيح لنفسه شهوات الدنيا، ويقنع نفسه بثواب الآخرة، كما هو الواقع المشاهد في بعض الديانات المحرّفة.

الوجه الثاني:

لو نظرت في جميع الكتب المُقدّسة؛ تكاد لا تجد محاولة للاستدلال على أن هناك إله، وإنما هي تقرر صفة هذا الإله. فنسألهم: أين الشاهد على كلامكم من الكتب المقدسة؟ لو كان الناس فعلا هم الذين اخترعوا فكرة أن هناك إله؛ لوجدت الكتب المقدسة فيها الكثير من الكلام عن إثبات فكرة الربوبيّة! فواقع الكتب ينافي قولهم.

 

الأصل الثالث: معرفة القانون.

يرى الملاحدة أن معرفته للقانون الذي على أساسه تسير الأمور يغني عن الاعتقاد بالخالق، فإذا عرفوا كيف تعطي الشمس أشعة إلى الأرض، وكيف تقوم طبقة الأوزون بتنقيتها، وكيف يكون الليل والنهار، وكيف تهضم المعدة الطعام…إلخ؛ فلا حاجة عندئذ للقول بأن هناك خالق.

ومع أن هذا الكلام يبدو عجيبًا، وقد لا تُصدَّق فكرة أن عاقلًا قد يقوله، إلا أنه انتشر وتُبُنّيِ عند كثير من الملاحدة بعد أن قال “ستيفن هاوكينغ” جملته الشهيرة: “Because there is a law such as gravity, the universe can and will create itself from nothin” ([16])، ومعناها أن وجود قانون كالجاذبية يعني أن الكون قادر وسيصنع نفسه من لاشيء. انتهى كلامه. وهذا يصادم العِلم، إذ أن القانون يفسّر الظاهرة، ولا يُنشئها. بل حتى آينشتاين فسّر الجاذبيّة بانحناء الزمكان -كما في نظرته المعروفة- وهذا يعني أنه يقول أن الجاذبية ناتجة عن وجود المكان لا قبله، وهذا أكثر منطقيّةً من كلام هاوكينغ.

ولكن حتى لو افترضنا صحة كلامه، فإنا نسأله: من الذي أوجَدَ هذا القانون؟ بل إننا نجد باول دافيس “Paul Davies” يقول معقبًا على كلام هاوكينغ: “على هذا: فإن القوانين الفوقية لها وضع مشابه للإله المتعالي غير المُفَسَّر”([17]). ثم نقول: كيف أوجد نفسه إذا كان غير موجود قبل ان يوجَد؟ فنجد بوضوح أنهم يفرّون من الإقرار بالله تعالى فرارًا، وليسوا يبنون إنكارهم له على أسس علمية أو منطقيّة.

 

الأصل الرابع: القول بالتطوّر الكبروي.

التطور ينقسم إلى قسمين:

  • تطور صغروي: وهذا يكون بتقوية أو إضعاف صفات في الكائن، مثل قصر قامة الإنسان بعد أن كان طوله ستون ذراعًا ([18])، أو فقدان بعض أنواع البكتيريا لبعض صفاتها للتتماشى مع البيئة التي تعيش فيها. وهذا النوع ليس الذي يريده الملاحدة، لأنه لا يتعارض مع الدين، وإنما هي خصائص موجودة في الكائن، تبرز، أو تضعف بحسب الحاجة. وهو ما قد نعبّر عنه بـ: “التأقلُم مع البيئة”، وقد تكلم الجاحظ عن أمثلة لهذا في كتابه: “الحيوان”.
  • التطور الكبروي: وهو أن يكتسب الكائن خصائص جديدة غير موجودة عنده في الأساس. مثال عليه: يمكن أن يكتسب كائن من الغير الطيور، كالإنسان فرضًا أجنحة، أو قد تنشأ له عين في رقبته، أو مخالب… إلخ. ثم إذا نظرنا إليه بعد ملايين السنين، بعد أن تراكمت فيه تلك التغيرات؛ سنجد أنه صار كائنا مختلفًا. وهذا النوع هو الذي يدافع عنه الملاحدة بكل ما أوتوا من قوّة. لأن الصغروي يقول أن الإنسان كان إنسانًا وسيبقى إنسانا، والحيوانات، كل منها كان وسيبقى كما هو مع بعض التغيرات الطفيفة، لكن لا يتحول إلى كائن آخر. أما التطور الكبروي فيتماشى من قولهم بإنكار الإله، إذ أنه يعطيهم تبريرًا يدفعون به السؤال عن خالق هذه المخلوقات التي نراها. فيدافعون عنه ويتبنونه مع أنه مخالف للعلم.

والنقض على التطور الكبروي أجمله في نقاط، وهي:

أولًا: لا يوجد أي مثال تم رصده على كائن اكتسب أي صفة من خارج حوضه الجيني، حتى الفايروسات، والبكتيريا.

ثانيًا: أقوى دليل عندهم كما قال ريتشارد داوكينز هو: تشابه الكائنات بشكل كبير. قلت: والحقيقة أنهم فعلًا يرون هذا أنه دليلهم الأكبر، وينفقون المبالغ الكبيرة جدا للحفر لاستخراج مستحاثات تدل على قولهم هذا، لكن في الواقع: هذا التشابه الذي يحاولون إثباته؛ هو دليل على صدق ما جاء به محمد ﷺ من ربه، حيث أنّ الله تعالى قال: ﴿مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ﴾، فصار أقوى دليل عندهم دليلًا لنا، والحمد لله.

ثالثًا: وجود التكامل في الطبيعة عمومًا، وفي المخلوقات كل منها على خصوصه.

ففي الكائن نفسه، فنجد أن وظائف الجسم يعتمد أحدها على الآخر، فلا يمكن لشيء أن يعمل دون أعصاب، والأعصاب لا تنفع دون دماغ، والدماغ يتغذى على الدم، والدم تتشارك به عدة أعضاء لتكوينه وتغذيته، وهاته الأعضاء لا تعمل بدون دم، وبدون أمو من الدماغ. كذلك فإن تكاثر الإنسان يعتمد على وجود زوج له، وبدونه لا يمكنه التكاثر، فكل زوج من الذكر والأنثر يعتمد على الزوج الآخر في هذا، فنجد أن عند الأنثى جاهز خاص مجهّز بما يناسب عملية التلقيح معتمد على وجود جنس آخر، والنطاف التي تُصنع في جسد الذكر تعرف طريقها إلى البويضة، ثم أن رحم المرأة وعظم حوضها مجهز بطريقة مميزة للحمل والولادة، وعندها جهاز يفرز الغذاء (الحليب) للمولود الذي لا يستطيع في أشهره الأولى الاعتماد على غذاء آخر. فالناظر إلى هذا الأمر يجد أنه لا يمكن أن يوجد كل هذا بطريقة تطوّرية، يجعل حياة الكائن دورة لا يقوم عنصر منها بمفرده.

أضف إليه وجود فطرة تدفع الإنسان وكذلك الحيوانات عمومًا للتزاوج، ولولاها لزهدت هذه الكائنات بالتكاثر وما تكاثرت، وهذا بند إضافيٌّ وهو:

رابعًا: الفطرة: وهي من أهم أسباب الحياة، فلو نظرنا إلى الإنسان، فإن طريقة تكاثره من المنظور المادي، طريقة غير جيدة، فسيضطر للعيش مع زوج غريب عنه، ليُنجب منه طفل يتعب في تأمينه وتوفير الغذاء له، والصبر عليه، وتعليمه.. فالأمر مادّيًّا عبارة عن تعب دون مقابل، فإن قيل أن المقابل أن الابن سيعتني بالوالد عندما يكبر الأخير ويعجز، نقول: لا يوجد مانع مادي عند الإنسان من قتل نفسه إذا شعر بالعجز، وبالتالي هو لا حاجة له بالتعب فترة شبابه لإنشاء من قد يعينه أو لا يعينه عندما يعجز. فلا تفسير لها إلا بوجود إرادة خارجة عن الإنسان، وَضَع صاحبها تلك الغريزة فيه لأنه أراد لجنسه البقاء. وهذا المُريد هو الله تبارك وتعالى.

 

خاتمة

قال ابن القيم رحمه الله: ” كَذَلِكَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ لأبي زميل سماك بن الوليد الحنفي، وَقَدْ (سَأَلَهُ: مَا شَيْءٌ أَجِدُهُ فِي صَدْرِي؟ قَالَ: مَا هُوَ؟ قَالَ: قُلْتُ: وَاللَّهِ لَا أَتَكَلَّمُ بِهِ. قَالَ فَقَالَ لِي: أَشَيْءٌ مِنْ شَكٍّ؟ قُلْتُ: بَلَى، فَقَالَ لِي: مَا نَجَا مِنْ ذَلِكَ أَحَدٌ، حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ﴾([19]). قَالَ: فَقَالَ لِي: فَإِذَا وَجَدْتَ فِي نَفْسِكَ شَيْئًا، فَقُلْ: ﴿هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾([20]) ).

فَأَرْشَدَهُمْ بِهَذِهِ الْآيَةِ إِلَى بُطْلَانِ التَّسَلْسُلِ الْبَاطِلِ بِبَدِيهَةِ الْعَقْلِ، وَأَنَّ سِلْسِلَةَ الْمَخْلُوقَاتِ فِي ابْتِدَائِهَا تَنْتَهِي إِلَى أَوَّلَ لَيْسَ قَبْلَهُ شَيْءٌ، كَمَا تَنْتَهِي فِي آخِرِهَا إِلَى آخِرٍ لَيْسَ بَعْدَهُ شَيْءٌ، كَمَا أَنَّ ظُهُورَهُ هُوَ الْعُلُوُّ الَّذِي لَيْسَ فَوْقَهُ شَيْءٌ، وَبُطُونَهُ هُوَ الْإِحَاطَةُ الَّتِي لَا يَكُونُ دُونَهُ فِيهَا شَيْءٌ، وَلَوْ كَانَ قَبْلَهُ شَيْءٌ يَكُونُ مُؤَثِّرًا فِيهِ لَكَانَ ذَلِكَ هُوَ الرَّبَّ الْخَلَّاقَ، وَلَا بُدَّ أَنْ يَنْتَهِيَ الْأَمْرُ إِلَى خَالِقٍ غَيْرِ مَخْلُوقٍ وَغَنِيٍّ عَنْ غَيْرِهِ، وَكُلُّ شَيْءٍ فَقِيرٌ إِلَيْهِ قَائِمٌ بِنَفْسِهِ، وَكُلُّ شَيْءٍ قَائِمٌ بِهِ مَوْجُودٌ بِذَاتِهِ، وَكُلُّ شَيْءٍ مَوْجُودٌ بِهِ.” ([21]) انتهى.

ففرار الملاحدة من الإقرار بالله تبارك وتعالى لا يخلو من ثلاثة أمور:

إما أنهم يُثبتون خالقًا غير الله تعالى بعبارات أخرى غير الخالقيّة، وهذا يلزمهم حتمًا بالاعتراف بخالق، حتى لو كان الخالق الذي زعموه هو الكون -كما في قولهم: الكون أوجد نفسه- فإن فعلوا أبطلوا إلحادهم، ودخلوا في البحث عن الإله الحق.

أو أنهم يقولون بأنه لا خالق،

 

 

[1] لسان العرب: باب الدال، فصل اللام.

[2] مجاز القرآن: ج1 ص398. ط. مكتبة الخانجي.

[3] تفسير  عبد الرزاق ج3 ص157. ط. دار الكتب العلمية.

[4] لوامع الأنوار: ج1 ص190. ط2 مؤسسة الخافقين.

[5] المصدر السابق: ج1 ص215.

[6] إعجاز القرآن للباقلاني: ص399. ط. دار المعارف.

[7] تجريد التوحيد: ص25.

[8] انظر فثرة: معرفة القانون.

[9] مفيد العلوم: ص106. ط. المكتبة العصرية.

[10] المصدر السابق.

[11] تلبيس إبليس: ص40. ط. دار الفكر

[12] الجاثية: 24.

[13] تلبيس إبليس: ص40.

[14] https://www.youtube.com/watch?v=UBd126ci3GA

[15] وجود الله وصور الإلحاد ص 22.

[16] من مقالة بعنوان: “Stephen Hawking says universe not created by God” في مجلة “ذا غارديان” البريطانية https://www.theguardian.com/science/2010/sep/02/stephen-hawking-big-bang-creator .

[17] نص عبارته: ” In that respect the meta-laws have a similar status to an unexplained transcendent god.” وذلك في مقالة بعنوان ” Stephen Hawking’s big bang gaps” في مجلة ذا غارديان: https://www.theguardian.com/commentisfree/belief/2010/sep/04/stephen-hawking-big-bang-gap .

[18] قال رسول الله ﷺ: (خَلَقَ اللَّهُ آدَمَ وَطُولُهُ سِتُّونَ ذِرَاعًا) رواه البخاري برقم 3326، ومسلم برقم 2841.

[19] يونس: 94

[20] الحديد: 3

[21] زاد المعاد: ج2 ص422. ط. مؤسسة الرسالة 1415هـ

التسجيل في الجريدة الإلكترونية

عند التسجيل ستصلك مقالات الشيخ الجديدة, كل مقال جديد يكتبه الشيخ سيصلك على الإيميل

(Visited 589 times, 2 visits today)
أصول الإلحاد والرد عليها
تمرير للأعلى