بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد
اختلف الناس في جواز أن يقطف المرء من شجرة أحدهم ليأكل، فمنهم من منع، والأصل في ذلك قول الله تعالى {لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم}، ومنهم من قال بجوازه، وعمدتهم حديث النبي ص: «إذا مر أحدكم بحائط [يعني: مزرعة لها سور]، فليأكل، ولا يتخذ خبنة». [رواه ابن ماجه والترمذي]
واختلفوا في تصحيحه
قال الشافعي: وقد روي حديث لا يثبت مثله «إذا دخل أحدكم الحائط فليأكل ولا يتخذ خبنة … ولو ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم قلنا به، ولم نخالفه» وما لا يثبت لا حجة فيه. [الأم للإمام الشافعي (2/ 268 ط الفكر)]
قال الترمذي: «وقد رَخَّصَ فيهِ بَعْضُ أهْلِ العِلْمِ لابن السَّبيلِ في أكْلِ الثِّمارِ. وكَرِهَهُ بَعْضهم إلَّا بالثَّمَنِ.». [سنن الترمذي (3/ 136)] وقال أحمد: «قد سهل فيه قومٌ من أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وأما سعد فأبى أن يأكل». [“الورع” (416)]
وأورد الترمذي حديثا، أن رسول الله أتوه برجل يرمي شيئًا على نخل ليتساقط التمر فيأكل منه، فسأله: «تَرْمِي نَخْلَهُم؟ قال: يا رسولَ الله، الجُوعُ. قالَ: “لا تَرْمِ، وكُلْ ما وَقَعَ، أشْبَعَكَ اللهُ وأرْوَاكَ”.». [سنن الترمذي (3/ 137) وقال: هذا حَديثٌ حَسنٌ غَريبٌ صحيحٌ]
وأما الإمام أحمد ، فقال المروذي: «وسألت أبا عبد اللَّه عن الرجل يمر ببستان؟ قال: إذا كان عليه حائط لم يدخل، وإذا كان غير محوط أكل ولم يحمل معه شيئًا.» [“الورع” (417 – 419)]
«وقال الأثرم: وقيل له: يأكل على الضرورة، أو غير ضرورة؟ فقال: ليس في الأحاديث ضرورة.». [“الروايتين والوجهين” 3/ 33، 34]
وفرق الإمام بين الحائط وغيره فقال: «إذا كان عليه حائط لم يدخل، وإذا كان غير محوط أكل ولم يحمل معه شيئًا». [“الورع” (417 – 419)]
وأما أن يتسلق على شيء للوصول للثمر فلا يفعل، قال الإمام أحمد: «وقد سئل: إذا لم يكن تحت الثمرة شيء يصعد؟ فقال: لم أسمع يصعد، فإن أضطر أرجو ألا يكون به بأس». [“الروايتين والوجهين” 3/ 33، 34]
وفتوى الإمام تدل على تصحيحه الحديث، وأما منع الشافعي فمبني على عدم صحته، وهو مستعد للأخذ به إن صح كما سلف، وكان يقول للإمام أحمد: «أنتم أعلم بالحديث منا، إذا صح الحديث فقولوا لنا حتى نذهب إليه». [الأربعون على الطبقات لعلي بن المفضل المقدسي (ص262)]
لكن «رُوِىَ عن أحمد أَنَّه قال: يأْكلُ ممَّا تحتَ الشَّجَرِ، وإذا لم يكُنْ تحتَ الشَّجَرِ فلا يأكُلُ ثمارَ الناسِ». [المغني لابن قدامة (13/ 334)]
ودليل هذا القول حديث «عن رَافعِ بن عَمْرو، قالَ: كُنتُ أرْمي نَخْلَ الأنْصَارِ، فأخَذوني فذَهَبَوا بي إلى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم. فقال: “يا رافع لِمَ تَرْمِي نَخْلَهُم؟ ” قال: قُلتُ: يا رسولَ الله، الجُوعُ. قالَ: “لا تَرْمِ، وكُلْ ما وَقَعَ، أشْبَعَكَ اللهُ وأرْوَاكَ”. قال الترمذي هذا حَديثٌ حَسنٌ غَريبٌ صحيحٌ.». [سنن الترمذي (3/ 137)]
ولكن هذا كان في التمر، وهو ليس قريبًا من اليد، بل يحتاج تسلق على النقلة أو رمي بحجر، ولهذا كان له أن يأكل من المتساقط منه فقط، فلا يتعارض هذا مع الأكل من الشجر.
وقال القاضي عبد الوهاب المالكي: «إذا مرَّ بحائط فيه ثمر لم يجز أن يأكل منه شيئاً إلا أن يكون مضطرًا، وقال بعض أصحاب الحديث: ينادي ثلاثة أصوات فإن أجيب وإلا أكل ما شاء ولا يحمل معه». [الإشراف على نكت مسائل الخلاف (2/ 923)]
فيمكن أن نلخص المسألة في أمر جامع، ألا وهو:
أولا: التفريق بين المزرعة المسوَّرة وغير المسوَّرة (الحائط) فمن لم يسوِّر مزعته دل ذلك على أنه ليس شحيحًا بما فيه على من مر فاشتهى وأكل الثمرة والثمرتين. وأما من سوَّرَها؛ دل ذلك على عدم رضاه. والمرور بالحائط لا يعني دخوله بغير إذن مالكه، فإن ذلك تعدي على حرمته، وأما من مر به من خارجه، فأكل الثمرة فإن ذلك مما ساغ وعفي عنه. والورع عن ذلك خير.
والخلاف لا يشمل الثمر المقطوف والموضوع في صناديق، فإن الأخذ منه سرقة.