نصيحة إسحاق بن أحمد العلثى لابن الجوزي

أرسل رسالة طويلة إلى الشيخ أبى الفرج بن الجوزى بالإنكار عليه فيما يقع فى كلامه من الميل إلى أهل التأويل يقول فيها:

من عبيد الله إسحاق بن أحمد بن محمد بن غانم العلثى، إلى عبد الرحمن ابن الجوزى، حمانا الله وإياه من الاستكبار عن قبول النصائح، ووفقنا وإياه لاتباع السلف الصالح، وبصرنا بالسنة السنية، ولا حرمنا الاهتداء باللفظات النبوية، وأعاذنا من الابتداع فى الشريعة المحمدية. فلا حاجة إلى ذلك، فقد تركنا على بيضاء نقية، وأكمل الله لنا الدين، وأغنانا عن آراء المتنطعين، ففى كتاب الله وسنة رسوله مَقنَعٌ لكل من رغِب أو رهِب، ورزقنا الله الاعتقاد السليم، ولا حرمنا التوفيق، فإذا حرمه العبد لم ينفع التعليم. وعرفنا أقدار نفوسنا، وهدانا الصراط المستقيم. ولا حول ولا قوة إلا بالله العلى العظيم، وفوق كل ذى علم عليم. وبعد حمد الله سبحانه، والصلاة على رسوله: فلا يخفى أن «الدين النصيحة» خصوصا للمولى الكريم، والرب الرحيم.

فكم قد زل قلم، وعثر قدم، وزلق متكلم، ولا يحيطون به علما. قال: عز من قائل {وَمِنَ النّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ}.

 

وأنت يا عبد الرحمن، فما يزال يبلغ عنك ويسمع منك، ويشاهد فى كتبك المسموعة عليك، تذكر كثيرا ممن كان قبلك من العلماء بالخطأ، اعتقادا منك:

أنك تصدع بالحق من غير محاباة، ولا بد من الجريان فى ميدان النصح: إما لتنتفع إن هداك الله، وإما لتركيب حجة الله عليك. ويحذر الناس قولك الفاسد.

ولا يغرك كثرة اطلاعك على العلوم، فرب مبلَّغ أوعى من سامِع، ورب حامل فقه لا فقه له، ورب بحر كدْرٍ ونهر صافٍ، فلستَ بأعلم من الرسول حيث قال له الإمام عمر «أتصلى على ابن أُبَىّ؟ أنزل القرآن {وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ}

ولو كان لا ينكر من قل علمه على من كثر علمه إذا لتعطل الأمر بالمعروف، وصرنا كبنى إسرائيل حيث قال تعالى: {كانُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ} بل ينكر المفضول على الفاضل وينكر الفاجر على الولى، على تقدير معرفة الولى. وإلا فأين العنقاء ليطلب؟ وأين ‌السمندل ‌ليجلب؟

إلى أن قال:

واعلم أنه قد كثر النكير عليك من العلماء والفضلاء، والأخيار فى الآفاق بمقالتك الفاسدة فى الصفات، وقد أبانوا وهاء مقالتك، وحكوا عنك أنك أبيت النصيحة، فعندك من الأقوال التى لا تليق بالسنة ما يضيق الوقت عن ذكرها، فذُكر عنك: أنك ذكرت فى الملائكة المقربين، الكرام الكاتبين فصلا زعمت أنه مواعظ، وهو تشقيق وتفهيق، وتكلف بشع، خلا أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكلام السلف الصالح الذى لا يخالف سنة، فعمدت وجعلتها مناظرة معهم. فمن أذن لك فى ذلك؟ وهم مستغفرون للذين آمنوا، ولا يستكبرون عن عبادة الله. وقد قرن شهادته بشهادتهم قبل أولى العِلم. وما علينا كان الآدمى أفضل منهم أم لا، فتلك مسألة أخرى.

فشرعت تقول: إذا ثارت نار الحسد فمن يطفيها، وفى الغيبة ما فيها؟ مع كلام غث: أليس منا فلان؟ ومنا فلان؟ ومنا الأنبياء والأولياء. مَن فعل هذا من السلف قبلك؟ ولو قال لك قائل من الملائكة: أليس منكم فرعون وهامان؟ أليس منكم من ادعى الربوبية؟ فعمن أخذت هذه الأقوال المحدثة، والعبارات المزوقة، التى لا طائل تحتها وقد شغلت بها الناس عن الاشتغال بالعلم النافع، أحدهم قد أنسى القرآن وهو يعيد فضل الملائكة ومناظرتهم، ويتكلم به فى الآفاق.
فأين الوعظ والتذكير من هذه الأقوال الشنيعة البشعة؟

 

ثم تعرضت لصفات الخالق تعالى، كأنها صدَرَت لا من صدرٍ سكن فيه احتشامُ العلى العظيم، ولا أملاها قلب ملئ بالهيبة والتعظيم، بل من واقعات النفوس البهرجية الزيوف. وزعمت أن طائفة من أهل السنة والأخيار تلقوها وما فهموا. وحاشاهم من ذلك. بل كفوا عن الثرثرة والتشدق، لا عجزا – بحمد الله – عن الجدال والخصام، ولا جهلا بطرق الكلام. وإنما أمسكوا عن الخوض فى ذلك عن علم ودراية، لا عن جهل وعماية.
والعجب ممن ينتحل مذهب السلف، ولا يرى الخوض فى الكلام، ثم يقدم على تفسير ما لم يره أولا، ويقول: إذا قلنا كذا أدى إلى كذا، ويقيس ما ثبت من صفات الخالق على ما لم يثبت عنده. فهذا الذى نهيت عنه. وكيف تنقض عهدك وقولك بقول فلان وفلان من المتأخرين؟ فلا تشمت بنا المبتدعة فيقولون: تنسبوننا إلى البدع وأنتم أكثر بدعا منا، أفلا تنظرون إلى قول من اعتقدتم سلامة عقده، وتثبتون معرفته وفضله؟ كيف أقول ما لم يقل، فكيف يجوز أن تتبع المتكلمين فى آرائهم، وتخوض مع الخائضين فيما خاضوا فيه، ثم تنكر عليهم؟ هذا من العجب العجيب. ولو أن مخلوقا وصف مخلوقا مثله بصفات من غير رؤية ولا خبر صادق؛ لكان كاذبا فى إخباره؛ فكيف تصفون الله سبحانه بشئ ما وقفتم على صحته، بل بالظنون والواقعات، وتنفون الصفات التى رضيها لنفسه، وأخبر بها رسوله بنقل الثقات الأثبات، بيحتمل، ويحتمل.

ثم لك فى الكتاب الذى أسميته «الكشف لمشكل الصحيحين» مقالات عجيبة، تارة تحكيها عن الخطابى وغيره من المتأخرين، أطّلَع هؤلاء على الغيب؟ وأنتم تقولون: لا يجوز التقليد فى هذا، ثم ذكره فلان، ذكره ابن عقيل، فنريد الدليل من الذاكر أيضا، فهو مجرد دعوى، وليس الكلام فى الله وصفاته بالهين ليلقى إلى مجارى الظنون.

إلى أن قال:
إذا أردت: كان ابن عقيل العالم، وإذا أردت: صار لا يفهم، أوهيت مقالته لما أردت.

ثم قال:
وذكرت الكلام المحدث على الحديث، ثم قلت: والذى يقع لى. فبهذا تقدم على الله، وتقول: قال علماؤنا، والذى يقع لى. تتكلمون فى الله عز وجل بوقعاتكم تخبرون عن صفاته؟ ثم ما كفاك حتى قلت: هذا من تحريف بعض الرواة. تحكما من غير دليل. وما رويت عن ثقة آخر أنه قال: قد غيره الراوى. فلا ينبغى بالرواة العدول أنهم حرفوا، ولو جوزتم لهم الرواية بالمعنى، فهم أقرب إلى الإصابة منكم. وأهل البدع إذا كلما رويتم حديثا ينفرون منه، يقولون: يحتمل أنه من تغيير بعض الرواة. فإذا كان المذكور فى الصحيح المنقول من تحريف بعض الرواة، فقولكم ورأيكم فى هذا يحتمل أنه من رأى بعض الغواة.

وتقول: قد انزعج الخطابى لهذه الألفاظ. فما الذى أزعجه دون غيره؟ ونراك تبنى شيئا ثم تنقضه، وتقول: قد قال فلان وفلان، وتنسب ذلك إلى إمامنا أحمد – رضى الله عنه – ومذهبه معروف فى السكوت عن مثل هذا، ولا يفسره، بل صحح الحديث، ومنع من تأويله.

وكثير ممن أخذ عنك العلم إذا رجع إلى بيته علم بما فى عيبته من العيب، وذم مقالتك وأبطلها. وقد سمعنا عنك ذلك من أعيان أصحابك المحبوبين عندك، الذين مدحتهم بالعلم، ولا غرض لهم فيك، بل أدوا النصيحة إلى عباد الله، ولك القول وضده منصوران. وكل ذلك بناء على الواقعات والخواطر.

وتدعى أن الأصحاب خلَّطوا فى الصفات، فقد قبُحت أكثر منهم، وما وسعتك السنة. فاتق الله سبحانه. ولا تتكلم فيه برأيك فهذا خبر غيب، لا يسمع إلا من الرسول المعصوم، فقد نصبتم حربا للأحاديث الصحيحة. والذين نقلوها نقلوا شرائع الإسلام.

ثم لك قصيدة مسموعة عليك فى سائر الآفاق، اعتقدها قوم، وماتوا بخلاف اعتقادك الآن فيما يبلغ عنك، وسمع منك منها:

ولو رأيت النار هبت، فعدت … تحرق أهل البغى والعناد
وكلما ألقى فيها حطمت … وأهلكته، وهى فى ازدياد
فيضع الجبار فيها قدما … جلت عن التشبيه بالأجساد
فتنزوى من هيبته، وتمتلى … فلو سمعت صوتها ينادى
حسبى حسبى، قد كفانى ما أرى … من هيبة أذهبت اشتداد
فاحذر مقال مبتدع فى قوله … يروم تأويلا بكل وادى

فكيف هذه الأقوال: وما معناها؟ فإنا نخاف أن تحدث لنا قولا ثالثا، فيذهب الاعتقاد الأول باطلا.

لقد آذيت عباد الله وأضللتهم، وصار شغلك نقل الأقوال فحسب، وابن عقيل سامحه الله، قد حكى عنه: أنه تاب بمحضر من علماء وقته من مثل هذه الأقوال، بمدينة السلام – عمرها الله بالإسلام والسنة – فهو برئ – على هذا التقدير – مما يوجد بخطه، أو ينسب إليه، من التأويلات، والأقوال المخالفة للكتاب والسنة.

وأنا وافدة الناس والعلماء والحفاظ إليك، فإما أن تنتهى عن هذه المقالات، وتتوب التوبة النصوح، كما تاب غيرك، وإلا كشفوا للناس أمرك، وسيروا ذلك فى البلاد وبينوا وجه الأقوال الغثة، وهذا أمر تشور فيه، وقضى بليل، والأرض لا تخلو من قائم لله بحجة، والجرح لا شك مقدم على التعديل، والله على ما نقول وكيل، وقد أعذر من أنذر.

وإذا تأولت الصفات على اللغة، وسوغته لنفسك، وأبيت النصيحة، فليس هو مذهب الإمام الكبير أحمد بن حنبل قدس الله روحه، فلا يمكنك الانتساب إليه بهذا، فاختر لنفسك مذهبا إن مُكِّنتَ من ذلك، وما زال أصحابنا يجهرون بصريح الحق فى كل وقت ولو ضربوا بالسيوف، لا يخافون فى الله لومة لائم، ولا يبالون بشناعة مشنع، ولا كذب كاذب، ولهم من الاسم العذب الهنى، وتركهم الدنيا وإعراضهم عنها اشتغالا بالآخرة: ما هو معلوم معروف.

ولقد سودت وجوهنا بمقالتك الفاسدة، وانفرادك بنفسك، كأنك جبار من الجبابرة، ولا كرامة لك ولا نعمى، ولا نمكنك من الجهر بمخالفة السنة، ولو استقبل من الرأى ما استدبر: لم يحك عنك كلام فى السهل، ولا فى الجبل، ولكن قدر الله، وما شاء فعل، بيننا وبينك كتاب الله وسنة رسوله، قال الله تعالى  {فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ} ولم يقل: إلى ابن الجوزى.

وترى كل من أنكر عليك نسبته إلى الجهل، ففضل الله أوتيته وحدك؟ وإذا جهّلت الناس فمن يشهد لك أنك عالم؟ ومن أجهل منك، حيث لا تصغى إلى نصيحة ناصح؟ وتقول: من كان فلان، ومن كان فلان؟ من الأئمة الذين وصل العلم إليك عنهم، من أنت إذا؟ فلقد استراح من خاف مقام ربه، وأحجم عن الخوض فيما لا يعلم، لئلا يندم.

فانتبه يا مسكين قبل الممات، وحسّن القول والعمل، فقد قرب الأجل، لله الأمر من قبل ومن بعد، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلى العظيم.

[ذيل طبقات الحنابلة لابن رجب (2/ 205)]

التسجيل في الجريدة الإلكترونية

عند التسجيل ستصلك مقالات الشيخ الجديدة, كل مقال جديد يكتبه الشيخ سيصلك على الإيميل

Visited 71 times, 1 visit(s) today
نصيحة إسحاق بن أحمد العلثى لابن الجوزي
Scroll to top