بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد،
فقد قال ربنا تعالى ذكره: ﴿وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ﴾ (سورة الفجر)
وليلية: مفرد ليالي، وأصل تأسيس بنائها عند ابن منظور كلمة “ليلًا” وقال الفرّاء “ليلية” ([1])، والليل ضد النهار، وفي التنزيل: ﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا﴾ ( ).
والقدر: يطلق على القضاء والحُكم، ويشهد لهذا قوله تعالى: ﴿فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ﴾، قال الشوكاني: “وَمَعْنَى يُفْرَقُ: يُفْصَلُ وَيُبَيَّنُ مِنْ قَوْلِهِمْ: فَرَقْتُ الشَّيْءَ أَفْرُقُهُ فَرْقًا، وَالْأَمْرُ الْحَكِيمُ: الْمُحْكَمُ، وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ يَكْتُبُ فِيهَا مَا يَكُونُ في السنة من حياة وموت وبسط وَخَيْرٍ وَشَرٍّ وَغَيْرِ ذَلِكَ، كَذَا قَالَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ وَالْحَسَنُ وَغَيْرُهُمْ” [فتح القدير ج4 ص653]. كما يٌطلق القَدْرُ على المكانة والمنزلة.
وليلة القدر: قيل سُميَت بذلك على معنى ليلة الجلالة والتعظيم.
وهذه الليلة مع أنها أهم ليلة، إلا أنه لا يمكن القطع بتحديد وقتها، إلا أن الله تعالى جعل لها علامات تُعرَف بها. وهذا سيكون موضوع بحثي.
وسأقسم هذا البحث إلى نقاط:
أولا: مكانة ليلة القدر. وفيه: الأحاديث الواردة في ذلك. قم أقوال السلف فيه.
ثانيًا: سبب عدم معرفة وقتها.
ثالثًا: علاماتها.
أولًا: مكانة ليلة القدر
قد بيّن الله تعالى مكانَة هذه الليلة في قوله: ﴿وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ﴾
قال رسول الله ﷺ: (وَمَنْ قَامَ لَيْلَةَ القَدْرِ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ).
وقال: (مَنْ حُرِمَ خَيْرَهَا فَقَدْ حُرِمَ). وفي رواية: (مَنْ حُرِمَهَا فَقَدْ حُرِمَ الْخَيْرَ كُلَّهُ، وَلَا يُحْرَمُ خَيْرَهَا إِلَّا مَحْرُومٌ).
وروى ابن أبي شيبة (9722) عن الحسن البصري رحمه الله: “مَا أَعْلَمُ لِيَوْمٍ فَضْلًا عَلَى يَوْمٍ، وَلَا لِلَيْلَةٍ عَلَى لَيْلَةٍ إِلَّا لَيْلَةَ الْقَدْرِ، فَإِنَّهَا خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ”
وقال الإمام مالك بن أنس في الموطأ: أنه سمع من يثق به من أهل العلم يقول: (إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أري أعمار الناس قبله. أو ما شاء الله من ذلك. فكأنه تقاصر أعمار أمته أن لا يبلغوا من العمل، مثل الذي بلغ غيرهم في طول العمر، فأعطاه الله ليلة القدر، خير من ألف شهر)
وهذا مرسَلٌ من بلاغات مالك، وقال ابن عبد البر -رحمه الله-: “هذا أحد الأحاديث الأربعة التي ذكرها مالك ولم يذكرها أحد غيره”
فهومن حيث الثبوت لا يثبت، إلا أنّ فيه لطيفة وهي أن الله تعالى عوّض هذه الأمة لقصر أعمارها بمضاعفة الأجور، وهذا يمكن إدراكه بالنظر.
جاء عن مجاهد بن جبر رحمه الله، قَالَ: (بَلَغَنِي أَنَّهُ كَانَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ رَجُلٌ لَبِسَ السِّلَاحَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَلْفَ شَهْرٍ فَلَمْ يَضَعْهُ عَنْهُ فَذَكَرَ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَصْحَابِهِ فَعَجِبُوا مِنْ قُوَّتِهِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ﴾. قال: يَقُولُ اللَّهُ: لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ لَكُمْ مِنْ تِلْكَ الْأَلْفِ شَهْرٍ الَّتِي لَبِسَ ذَلِكَ الرَّجُلُ فِيهَا السِّلَاحَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَمْ يَضَعْهُ عَنْهُ)
قلت: وهذا الخبر ليس مسندًا، فلا يثبُت كونه سببًا للنزول، لكن المعنى فيه صحيح.
وقال مقاتل البلخي، والفرّاء، وابن قتيبة وغيرهم: “العمل فيها خير من العمل في ألف شهر فيما سواها ليس فيها ليلة القدر”
واستدرك ابن العربي المالكي في تفسيره قائلًا: “﴿لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ﴾ لَيْسَ فِيهَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ فِي قَوْلِ الْمُفَسِّرِينَ؛ لِأَنَّهَا [لَا يَصِحُّ أَنْ] تَكُونَ خَيْرًا مِنْ نَفْسِهَا، وَتَرَكَّبَ عَلَى هَذَا قَوْلُ النُّحَاةِ: إنَّهُ لَا يَجُوزُ: زَيْدٌ أَفْضَلُ إخْوَتِهِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ الْإِخْوَةِ، يُرِيدُونَ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الشَّيْءُ أَفْضَلَ مِنْ نَفْسِهِ. وَهَذَا تَدْقِيقٌ لَا يَئُولُ إلَى تَحْقِيقٍ. أَمَّا لَيْلَةُ الْقَدْرِ فَإِنَّهَا خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ فِيهَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ، فَيَكُونُ الْعَمَلُ فِيهَا خَيْرًا مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ هِيَ مِنْ جُمْلَتِهَا، فَإِذَا عُمِّرَ الرَّجُلُ بَعْدَ الْبُلُوغِ عَامًا كَتَبَ اللَّهُ لَهُ بِلَيْلَةِ الْقَدْرِ أَلْفَ شَهْرٍ فِيهَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ، وَلَا يَكْتُبُ لَهُ لَيْلَةَ الْقَدْرِ، وَأَلْفَ شَهْرٍ زَائِدًا عَلَيْهَا، وَرُكِّبَ عَلَى هَذَا بَقِيَّةُ الْأَعْوَامِ.”
ولعل ذلك الاستدراك في غير محله، حيث أن المفسرين قصدوا بقولهم أنها خير من ألف شهر ليس فيها ليلة القدر؛ عدم التسلسل، فإذا كان في تلك الأشهر ليلة قدر، فتكون خيرًا من ألف شهر، وهكذا إلى اللانهاية، ولو كان هذا المقصود لبيّنه الله تعالى أنه أجر غير مقطوع، ولكان القول بأنها خير من ألف شهر ليس هو المناسب، وهذا لا يصح في حق كتاب الله تعالى.
علامات ليلة القدر:
لمّا غاب عنّا موعد ليلة القدر، لم يحرمنا الله تعالى من علامات تستدل بها عليها.
وسأقسّم الكلام إلى ثلاثة مباحث:
المبحث الأول: الليالي التي تُتحرّى فيها ليلة القدر.
المبحث الثاني: هل ليلة القدر ثابتة أم متغيّرة.
المبحث الثالث: علامات ليلة القدر.
وسأستعرض بإذن الله الأحاديث الواردة في هذا الصدد، والكلام عليها.
المبحث الأول: الليالي التي تُتحرّى فيها ليلة القدر.
1) عَنْ عَائِشَة – رضي الله عنها – قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: (تَحَرَّوْا لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ) رواه البخاري (1916)، ومسلم(219)، (1169)، والترمذي (792)، وأحمد (24337).
2) عَنْ عَائِشَة – رضي الله عنها – قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: (تَحَرَّوْا لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِي الْوِتْرِ مِنْ الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ) رواه البخاري (1913)، وأحمد (24489)، والبيهقي (8314).
3) عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: ” قَالَ: اعْتَكَفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَشْرَ الأُوَلِ مِنْ رَمَضَانَ وَاعْتَكَفْنَا مَعَهُ، فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ، فَقَالَ: إِنَّ الَّذِي تَطْلُبُ أَمَامَكَ، فَاعْتَكَفَ العَشْرَ الأَوْسَطَ، فَاعْتَكَفْنَا مَعَهُ فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ فَقَالَ: إِنَّ الَّذِي تَطْلُبُ أَمَامَكَ، فَقَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطِيبًا صَبِيحَةَ عِشْرِينَ مِنْ رَمَضَانَ فَقَالَ: (مَنْ كَانَ اعْتَكَفَ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلْيَرْجِعْ، فَإِنِّي أُرِيتُ لَيْلَةَ القَدْرِ، وَإِنِّي نُسِّيتُهَا، وَإِنَّهَا فِي العَشْرِ الأَوَاخِرِ، فِي وِتْرٍ، وَإِنِّي رَأَيْتُ كَأَنِّي أَسْجُدُ فِي طِينٍ وَمَاءٍ) وَكَانَ سَقْفُ المَسْجِدِ جَرِيدَ النَّخْلِ، وَمَا نَرَى فِي السَّمَاءِ شَيْئًا، فَجَاءَتْ قَزَعَةٌ، فَأُمْطِرْنَا، فَصَلَّى بِنَا النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى رَأَيْتُ أَثَرَ الطِّينِ وَالمَاءِ عَلَى جَبْهَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَرْنَبَتِهِ تَصْدِيقَ رُؤْيَاهُ” رواه البخاري (813)، ومسلم (1167)، والنسائي (3334)، والبيهقي (8567). وزاد في رواية ” فَبَصُرَتْ عَيْنَايَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى جَبْهَتِهِ أَثَرُ المَاءِ وَالطِّينِ، مِنْ صُبْحِ إِحْدَى وَعِشْرِين” رواها البخاري (2027)، وفي رواية ” مُطِرْنَا لَيْلَةَ إِحْدَى وَعِشْرِينَ” رواها مسلم (1167) .
4) عَنْ ابْنِ عُمَرَ – رضي الله عنهما -: أَنَّ رِجَالًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ ﷺ أُرُوا لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِي الْمَنَامِ فِي السَّبْعِ الْأَوَاخِرِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: (أَرَى رُؤْيَاكُمْ قَدْ تَوَاطَأَتْ فِي السَّبْعِ الْأَوَاخِرِ، فَمَنْ كَانَ مُتَحَرِّيهَا فَلْيَتَحَرَّهَا فِي السَّبْعِ الْأَوَاخِرِ) رواه البخاري (1911)، ومسلم (205)، (1165)، وأبو داود (1385)، وأحمد (4671).
5) وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ – رضي الله عنه – قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ – صلى اللهُ عليه وسلَّم -: (لَيْلَةُ الْقَدْرِ لَيْلَةُ السَّابِعَةِ، أَوِ التَّاسِعَةِ وَعِشْرِينَ، وَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ تِلْكَ اللَّيْلَةَ أَكْثَرُ فِي الْأَرْضِ مِنْ عَدَدِ الْحَصَى) رواه ابن خزيمة (2194)، وأحمد (10745)، قال الألباني: إسناده حسن وبيانه في الصحيحة 2205.
6) عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: (التَمِسُوهَا فِي العَشْرِ الأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ لَيْلَةَ القَدْرِ، فِي تَاسِعَةٍ تَبْقَى، فِي سَابِعَةٍ تَبْقَى، فِي خَامِسَةٍ تَبْقَى) رواه البخاري (2021).
7) عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ جَوْشَنٍ الغْطَفَانِيِّ قَالَ: ذَكَرْتُ لَيْلَةُ الْقَدْرِ عِنْدَ أَبِي بَكْرَةَ – رضي الله عنه – فَقَالَ: مَا أَنَا مُلْتَمِسُهَا لِشَيْءٍ سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلاَّ فِي العَشْرِ الأَوَاخِرِ، فَإِنِّي سَمِعْتُهُ يَقُولُ: (التَمِسُوهَا فِي تِسْعٍ يَبْقَيْنَ، أَوْ فِي سَبْعٍ يَبْقَيْنَ، أَوْ فِي خَمْسٍ يَبْقَيْنَ، أَوْ فِي ثَلاَثِ أَوَاخِرِ لَيْلَةٍ) رواه الترمذي (794) وقال هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ، وصححه شعيب الأرنؤوط.
8) وفي رواية عَنْ أَبِي نَضْرَةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عن رسول الله ﷺ: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّهَا كَانَتْ أُبِينَتْ لِي لَيْلَةُ الْقَدْرِ، وَإِنِّي خَرَجْتُ لِأُخْبِرَكُمْ بِهَا، فَجَاءَ رَجُلَانِ يَحْتَقَّانِ مَعَهُمَا الشَّيْطَانُ، فَنُسِّيتُهَا، فَالْتَمِسُوهَا فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ، الْتَمِسُوهَا فِي التَّاسِعَةِ وَالسَّابِعَةِ وَالْخَامِسَةِ) قَالَ قُلْتُ: يَا أَبَا سَعِيدٍ، إِنَّكُمْ أَعْلَمُ بِالْعَدَدِ مِنَّا، قَالَ: أَجَلْ، نَحْنُ أَحَقُّ بِذَلِكَ مِنْكُمْ، قَالَ قُلْتُ: مَا التَّاسِعَةُ وَالسَّابِعَةُ وَالْخَامِسَةُ؟ قَالَ: إِذَا مَضَتْ وَاحِدَةٌ وَعِشْرُونَ، فَالَّتِي تَلِيهَا ثِنْتَيْنِ وَعِشْرِينَ وَهِيَ التَّاسِعَةُ، فَإِذَا مَضَتْ ثَلَاثٌ وَعِشْرُونَ، فَالَّتِي تَلِيهَا السَّابِعَةُ، فَإِذَا مَضَى خَمْسٌ وَعِشْرُونَ فَالَّتِي تَلِيهَا الْخَامِسَةُ. رواها مسلم (1167) وأبو داود (1383) وقال شعيب في تحقيقه: إسناده صحيح .
9) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: ذَكَرْنَا لَيْلَةَ الْقَدْرِ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ ﷺ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: (كَمْ مَضَى مِنَ الشَّهْرِ؟) قُلْنَا: مَضَى اثْنَانِ وَعِشْرُونَ، وَبَقِيَ ثَمَانٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: (لَا، بَلْ بَقِيَ سَبْعٌ)، قَالُوا: لَا، بَلْ بَقِيَ ثَمَانٍ، قَالَ: (لَا، بَلْ بَقِيَ سَبْعٌ)، قَالُوا: لَا، بَلْ بَقِيَ ثَمَانٍ، قَالَ: (لَا، بَلْ بَقِيَ سَبْعٌ، الشَّهْرُ تِسْعٌ وَعِشْرُونَ) رواه ابن خزيمة (2179)، وابن حبّان (2548)، وأحمد (7417)، وابن جه (1656).
10) عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أن رسول الله ﷺ قال: (إِنَّ الشَّهْرَ تِسْعٌ وَعِشْرُونَ) رواه البخاري (378)، ومسلم (1083).
11) عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ، قَالَ: (الشَّهْرُ تِسْعٌ وَعِشْرُونَ لَيْلَةً) رواه البخاري (1907)، ومسلم (1080).
قال السندي: قوله: فقلت يا أبا سعيد. قال الأبّي في “شرح مسلم”: لما احتملت هاهنا أن تكون تاسعة ما مضى أو تاسعة ما بقي سأله، وقال: أنتم أعلم بهذا العدد. اهـ. قلت [السندي]: ولعله سأله لأنه قدم التاسعة على السابعة والخامسة.
قوله: والتي تليها التاسعة: هذا التفسير لا يناسب ما ورد من التماس ليلة القدر في الأوتار، وكذا ما ظهر أنها كانت في تلك السنة ليلة إحدى وعشرين، إلا أن يجاب عن الأول: بأن المراد أوتار ما بقي، لا أوتار ما مضى، فإن طريقة العرب في التاريخ. إذا جاوزوا نصف الشهر فإنما يؤرخون بالباقي منه لا بالماضي، ولذلك جاء في حديث ابن عباس مرفوعا: “التمسوها في تاسعة تبقى، في سابعة تبقى، في خامسة تبقى”، وقد جاء عن مالك أن التاسعة ليلة إحدى وعشرين، والسابعة ليلة ثلاث وعشرين، والخامسة ليلة خمس وعشرين، لكن جاء أنه رجع عنه بعد ذلك. قلت [القائل السندي] : بنى عن مالك على نقصان الشهر، وبنى عن أبي سعيد على تمامه، والله تعالى أعلم.
القول بأنها ليلة سبعة وعشرين
12) عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ أُنَيْسٍ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: (أُرِيتُ لَيْلَةَ الْقَدْرِ، ثُمَّ أُنْسِيتُهَا، وَأَرَانِي صُبْحَهَا أَسْجُدُ فِي مَاءٍ وَطِينٍ) قَالَ: فَمُطِرْنَا لَيْلَةَ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ، فَصَلَّى بِنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَانْصَرَفَ وَإِنَّ أَثَرَ الْمَاءِ وَالطِّينِ عَلَى جَبْهَتِهِ وَأَنْفِهِ قَالَ: وَكَانَ عَبْدُ اللهِ بْنُ أُنَيْسٍ يَقُولُ: ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ. رواه مسلم (1168) من طريق الضحاك عن أبي النضر.
وهذا الحديث مخالف لحديث أبي سعيد الخدري الذي فيه أنها كانت في ليلة الواحد والعشرين، إلا أن مسلمًا رواه من طريق الضّحاك بن عثمان، وفي توثيقه خلاف، ومع كونه أقرب إلى الثقة، إلا أنه خالف الأوثق منه فالحديث معلول.
قال محققو مستخرج أبي عوانة: “والحديث فيه علة، وهي أن الضحاك حمل من حديث عبد الله بن أنيس الذي ليس فيه ذكر نزول المطر في تلك الليلة، ولا السجود بين الماء والطين، على لفظ حديث أبي سعيد الخدري الذي فيه ذكر هذه الأمور، فأورد أبو عوانة طريق الضحاك، ثم أورد الحديث من وجه آخر سالما من هذه العلة وحصل بذلك بيان ما في الرواية الأولى من العلة، والله أعلم” ص380.
وقالوا في ج8ص290: “وفيه الضحاك بن عثمان، وقد تقدم الكلام فيه. وقد خالف في سند الحديث ومتنه.
أما مخالفته في السند، فقد رواه مالك (الموطأ، كتاب الاعتكاف، باب ما جاء في ليلة القدر، 1/ 320)، عن سالم أبي النضر، عن عبد الله بن أنيس، ليس فيه بسر بن سعيد، وهو بهذا الإسناد منقطع.
وأما في المتن، فقال مالك في حديثه أن عبد الله بن أنيس قال: يا رسول الله إني رجل شاسع الدار، فأمرني بليلة أنزل فيها، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: “انزل ليلة ثلاث وعشرين”. والحديث بهذا اللفظ روي من وجوه شتى صحاح ثابتة، كما قال ابن عبد البر، وقال: “إن ليلة الجهني معروفة بالمدينة ليلة ثلاث وعشرين، وحديثه هذا مشهور عند خاصتهم وعامتهم” (التمهيد، 21/ 214).”
إلا أنه ورد ما يشهد لكونها ليلة الثالث والعشرين:
13) عَنْ مُعَاوِيَةَ، قَالَ: (لَيْلَةُ الْقَدْرِ لَيْلَةُ ثَلاَثٍ وَعِشْرِينَ) رواه ابن أبي شيبة (9792) وقال سعد الشثري: صحيح.
14) عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (نظرت إلى القمر صبيحة ليلة القدر فرأيته كأنه فلق جفنة)، وقال أبو إسحاق: “إنما يكون القمر كذاك صبيحة ليلة ثلاث وعشرين” رواه أحمد (23129) قال المحققون: إسناده صحيح، رجاله ثقات رجال الصحيح غير صحابيه، أبو إسحاق: هو السبيعي.
القول بأنّها ليلة سبعة وعشرين
15) قَالَ أُبَيٌّ: (وَاللهِ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، إِنَّهَا لَفِي رَمَضَانَ، يَحْلِفُ مَا يَسْتَثْنِي، وَوَاللهِ إِنِّي لَأَعْلَمُ أَيُّ لَيْلَةٍ هِيَ، هِيَ اللَّيْلَةُ الَّتِي أَمَرَنَا بِهَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقِيَامِهَا، هِيَ لَيْلَةُ صَبِيحَةِ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ) رواه مسلم (762).
فنخلص مما سبق إلى أن تحديدها بيوم دون سواه صعب، والجمع بين الروايات يحمل إما على اجتهاد أصحابها، وأن فيهم من أصحاب وفيهم من أخطأ، أو على أن كل تعيين جاء في سنة ما، وبالتالي فإنها تتنقّل.
المبحث الثاني: ليلة القدر ثابتة أم متغيرة
1) روي عن أبي قلابة أنه قال: (ليلة القدر تنتقل في العشر الأواخر) قاله الترمذي (792).
2) قال ابن حبان في صحيحه: “ذِكْرُ الْخَبَرِ الدَّالِّ عَلَى أَنَّ لَيْلَةَ الْقَدْرِ تَنْتَقِلُ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ فِي كُلِّ سَنَةٍ دُونَ أَنْ يَكُونَ كَوْنُهَا فِي السِّنِينَ كُلِّهَا فِي لَيْلَةٍ وَاحِدَةٍ” ثم ذكر خبر التماسها في العشر الأواخر، ولا أج فيه دلالة على ترجمته، إلا أن المراد من النقل: مذهب ابن حبان.
ومما يشهد لهذا القول: قوّة الأخبار الواردة في تعيينها ليلة واحد وعشرين، وليلة ثلاثة وعشرين، وليلة سبعة وعشرين، وصعوبة الترجيح بينها.
ومما يُستشكل على هذا القول: أن رسول الله ﷺ كان على علم بموعدها ثم نسيه، فهو موعد ثابت. ويُجاب عليه بأنه قد يكون إخفاؤها جعلها متنقلة فلا تنضبط بموعد. ويُعترض على هذا الجواب بأن رسول الله ﷺ كان أولى به ان يُخبر بهذا صراحةً، ويُجاب عنه: بأن إخباره بأنّها تُلتمس في أوتار العشر الأواخر يعني تنقلها بينهن، وهذا ما يظهر من ترجمة ابن حبّان المذكورة آنفًا.
ومما يُستشكل عليه: رواية أبي رضي الله عنه، حين سأله زر بن حبيش: مَا تَقُولُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ؛ فَإِنَّ عَبْدَ اللَّهِ يَقُولُ: مَنْ يَقُمِ الْحَوْلَ يُصِبْهَا؟ فَقَالَ: يَرْحَمُ اللَّهُ أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ؛ إِنَّهُ لَيَعْلَمُ أَنَّهَا فِي رَمَضَانَ، وأَنَّهَا لَيْلَةُ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ، وَلَكِنَّهُ عَمَّى عَلَى نَاسٍ كَثِيرٍ لِكَيْ لَا يَتَّكِلُوا؛ فَوَالَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ عَلَى مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِنَّهَا لَفِي رَمَضَانَ، وَإِنَّهَا لَيْلَةُ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ، قَالَ: قُلْتُ: أَبَا الْمُنْذِرِ، بِمَ عَلِمْتَ ذَلِكَ؟ قَالَ: بِالْآيَةِ الَّتِي حَدَّثَنَا بِهَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَحَفِظْنَا وَعَدَدْنَا، فَوَاللَّهِ إِنَّهَا لَهِيَ هِيَ مَا يُسْتَثْنَى، قَالَ: قُلْتُ لِزِرٍّ: وَمَا الْآيَةُ التِي قَالَ؟ “تَطْلُعُ الشَّمْسُ غَدَاتَئِذٍ كَأَنَّهَا طَسْتٌ, لَيْسَ لَهَا شُعَاعٌ”. رواه عبد بن حميد (163)، قال مصطفى العدوي: صحيح لغيره: فعاصم بن أبي النجود حديثه لا يرتقي للصحة. وظاهره أن أبيًّا -رضي الله عنه- يرى ثبوتها. ويُجاب عنه: بأن كلامه يدل على أن هذا من اجتهاده، ويعارضه كون هذه العلامة غير متكررة في ذلك اليوم من كل سنة.
المبحث الثالث: علامات ليلة القدر.
ورد في ليلة القدر عدد من العلامات، منها ما يكون في الليلة، ومنها ما يكون بعدها، فسأسوقها، ثم أعقّب بما يُحتاج بإذن الله.
فمما يكون في الليلة
1) كونها من أوتار العشر الأواخر. وهذا تقدّم تفصيله.
2) (طَلْقَةٌ بَلْجَةٌ) رواه ابن حبان في صحيحه (3688) وقال شعيب الأرنؤوط: حديث صحيح بشواهده، وروى أحمد نحوها (22765)، وابن خزيمة في صحيحه (2190)، وضعفه الأعظمي في تعليقه، وقال الألباني في تعليقه: وهو حديث صحيح لشواهده التالية 2192 و2193 وغيرهما مما خرجته في الضعيفة 4404، ورواه ضياء الدين المقدسي في الأحاديث المختارة (342) وهي أحاديث اختارها على أنها صحيحة مالم يبين فيها علّة.
(طلقة): في رواية أحمد “صافية”، (بلجة) أي مشرقة ([2])، (كَأَنَّ فِيهَا قَمَرًا يَفْضَحُ كَوَاكِبَهَا): في رواية أحمد: ساطعًا
3) (لَا حَارَّةٌ وَلَا بَارِدَةٌ) تخريج الأول.
وفي رواية (لَا بَرْدَ فِيهَا وَلا حَرَّ)
4) (كَأَنَّ فِيهَا قَمَرًا يَفْضَحُ كَوَاكِبَهَا) تخريج الأول.
في رواية: (كَأَنَّ فِيهَا قَمَرًا سَاطِعًا)
5) (سَاكِنَةٌ سَاجِيَةٌ) رواه أحمد والضياء في المكان المشار إليه أولا.
والسكون والسجي بمعنى واحد، كقوله تعالى {والليل إذا سجى}، وتكرار المعنى يفيد التوكيد. وإن من معاني السجي: الظلمة، لكن لا يحمل عليه هنا لسطوع قمرها.
وقد يعترض على هذا بالحديث الصحيح الذي فيه إمطار السماء وسجود الرسول ﷺ في الماء والطين. وقد يٌرَدُّ على ذلك بأنّ مرور سحابة أمطرت وذهبت لا يعارض كون الليلة ساكنة، لأن العبرة بالغالب، والله أعلم.
6) (لَا يَخْرُجُ شَيْطَانُهَا حَتَّى يَخْرُجَ فجرها) تخريج الأول.
وفي رواية: (وَلَا يَحِلُّ لِكَوْكَبٍ أَنْ يُرْمَى بِهِ فِيهَا حَتَّى تُصْبِحَ) ” والمعنى -والله أعلم- : أن الشياطين لا تصعد لاستراق السمع، ولا الكواكب ترجمها. وهذا ليس من العلامات بالنسبة لنا، لأنه لا يمكن معرفته بالنسبة لنا، وإنما هو خبر، وقد يكون علامةً يلتمسها المسلمون من الجن باعتبار أن ذلك ورد في الأمارات.
7) عدم نباح الكلاب ونهيق الحمير.
لم أجد مستندًا لهذا القول. ولعل سبب شهرته: ذكر عبد القادر الجيلاني له في كتابه الغنية ج2ص23، لكن أورده بلفظ “قيل” ولم يذكر قائلًا ولا سندًا، ولم أتوصل إلى أحدٍ من سبقه بذكر ذلك.
8) كون السماء فيها بلا غيم.
وهذا أيضًا مشتهر في العامة، ولا أعرف له مستندًا، وقد يكون سبب قوله ما رواه مسلم (1170) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: تَذَاكَرْنَا لَيْلَةَ الْقَدْرِ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: (أَيُّكُمْ يَذْكُرُ حِينَ طَلَعَ الْقَمَرُ، وَهُوَ مِثْلُ شِقِّ جَفْنَةٍ؟) وشِق الجفنة هو نصف القصعة، فيشير الحديث إلى جلاء السماء وظهور القمر. كما يشهد له سطوع القمر. لكن تلك الشواه لا تعني بالضرورة عدم وجود غيوم. فلا يصح اعتبار ذلك دليلًا، ولا أعلمه من قول أهل العلم المعتبرين.
ومما يكون بعدها من العلامات
9) (تَطْلُعَ الشَّمْسُ فِي صَبِيحَةِ يَوْمِهَا بَيْضَاءَ لَا شُعَاعَ لَهَا) رواه مسلم (762).
وهذه الرواية هي أصح ما روي في العلامات، إلا أنها من قول أبي رضي الله عنه، وحكمها حكم المرفوع، لأنها مما لا يقال من قبيل الرأي، وجاءت مرفوعة في الروايات التي خرجتها سابقًا، بلفظ: (تَطْلُعُ شَمْسُهَا لَيْسَ لَهَا شُعَاعٌ). وفي رواية (وإن أمارتها أن الشمس صبيحتها تخرج مستوية ليس لها شعاع مثل القمر ليلة البدر). وفي رواية: (كَأَنَّهَا طَسْتٌ).
~~~ حصل المقصود ~~~
~~~ ولله الحمد ~~~