سُئل الإمام الشيخ ابن قيم الجوزية
“ما تقول السادة العلماء ، أئمة الدين رضي الله عنهم أجمعين – في رجل ابتلي ببلية وعلم أنها إن استمرت به أفسدت دنياه وآخرته ، وقد اجتهد في دفعها عن نفسه بكل طريق ، فما يزداد إلا توقدا وشدة ، فما الحيلة في دفعها ؟ وما الطريق إلى كشفها ؟ فرحم الله من أعان مبتلى ، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه ، أفتونا مأجورين رحمكم الله تعالى .“
فأجاب بجواب طويل مؤصل مفصل طُبِعَ في كتاب بعنوان “الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي”
وأقول اختصاراً منه:
* لكل داء دواء
أما بعد : فقد ثبت في صحيح البخاري من حديث أبي هريرة – رضي الله عنه – عن النبي – صلى الله عليه وسلم – أنه قال : ما أنزل الله داء إلا أنزل له شفاء .
وفي صحيح مسلم من حديث جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله : لكل داء دواء فإذا أصاب دواء الداء برأ بإذن الله .
وفي مسند الإمام أحمد من حديث أسامة بن شريك عن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال : إن الله لم ينزل داء إلا أنزل له شفاء ، علمه من علمه وجهله من جهله ، وفي لفظ : إن الله لم يضع داء إلا وضع له شفاء ، أو دواء ، إلا داء واحدا ، قالوا : يا رسول الله ما هو ؟ قال : الهرم قال الترمذي : هذا حديث صحيح .
* المعاصي تمرض القلوب
ومن عقوباتها : أنها تصرف القلب عن صحته واستقامته إلى مرضه وانحرافه ، فلا يزال مريضا معلولا لا ينتفع بالأغذية التي بها حياته وصلاحه ، فإن تأثير الذنوب في القلوب كتأثير الأمراض في الأبدان ، بل الذنوب أمراض القلوب وداؤها ، ولا دواء لها إلا تركها .
وقد أجمع السائرون إلى الله أن القلوب لا تعطى مناها حتى تصل إلى مولاها ، ولا تصل إلى مولاها حتى تكون صحيحة سليمة ، ولا تكون صحيحة سليمة حتى ينقلب داؤها ، فيصير نفس دوائها ، ولا يصح لها ذلك إلا بمخالفة هواها ، فهواها مرضها ، وشفاؤها مخالفته ، فإن استحكم المرض قتل أو كاد .
* المعاصي تزيل النعم
ومن عقوبات الذنوب : أنها تزيل النعم ، وتحل النقم ، فما زالت عن العبد نعمة إلا بذنب ، ولا حلت به نقمة إلا بذنب ، كما قال علي بن أبي طالب – رضي الله عنه – : ما نزل بلاء إلا بذنب ، ولا رفع إلا بتوبة .
وقد قال تعالى : وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير [ سورة الشورى : 30 ] .
وقال تعالى : ذلك بأن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم [ سورة الأنفال : 53 ] .
فأخبر الله تعالى أنه لا يغير نعمه التي أنعم بها على أحد حتى يكون هو الذي يغير ما بنفسه ، فيغير طاعة الله بمعصيته ، وشكره بكفره ، وأسباب رضاه بأسباب سخطه ، فإذا غير غير عليه ، جزاء وفاقا ، وما ربك بظلام للعبيد .
فإن غير المعصية بالطاعة ، غير الله عليه العقوبة بالعافية ، والذل بالعز .
* أصل الذنوب
ولما كانت الذنوب متفاوتة في درجاتها ومفاسدها تفاوتت عقوباتها في الدنيا والآخرة بحسب تفاوتها .
– الذنوب الشيطانية
وأما الشيطانية : فالتشبه بالشيطان في الحسد ، والبغي والغش والغل والخداع والمكر ، والأمر بمعاصي الله وتحسينها ، والنهي عن طاعته وتهجينها ، والابتداع في دينه ، والدعوة إلى البدع والضلال .
وهذا النوع يلي النوع الأول في المفسدة ، وإن كانت مفسدته دونه .
– الذنوب السبعية
وأما السبعية : فذنوب العدوان والغضب وسفك الدماء ، والتوثب على الضعفاء والعاجزين ، ويتولد منها أنواع أذى النوع الإنساني والجرأة على الظلم والعدوان .
– الذنوب البهيمية
وأما الذنوب البهيمية : فمثل الشره والحرص على قضاء شهوة البطن والفرج ، ومنها يتولد الزنا والسرقة وأكل أموال اليتامى ، والبخل ، والشح ، والجبن ، والهلع ، وغير ذلك .
وهذا القسم أكثر ذنوب الخلق لعجزهم عن الذنوب السبعية والملكية
* من مداخل الذنوب النظرة
فأما اللحظات : فهي رائد الشهوة ورسولها ، وحفظها أصل حفظ الفرج ، فمن أطلق بصره أورد نفسه موارد المهلكات .
وقال النبي – صلى الله عليه وسلم – : لا تتبع النظرة النظرة ، فإنما لك الأولى وليست لك الأخرى .
وفي المسند عنه – صلى الله عليه وسلم – : النظرة سهم مسموم من سهام إبليس ، فمن غض بصره عن محاسن امرأة لله ، أورث الله قلبه حلاوة إلى يوم يلقاه هذا معنى الحديث .
وقال : غضوا أبصاركم ، واحفظوا فروجكم ، وقال : إياكم والجلوس على الطرقات ، قالوا : يا رسول الله مجالسنا ما لنا بد منها ، قال : فإن كنتم لا بد فاعلين ، فأعطوا الطريق حقه ، قالوا : وما حقه ؟ قال : غض البصر وكف الأذى ورد السلام .
ومن آفات النظر : أنه يورث الحسرات والزفرات والحرقات ، فيرى العبد ما ليس قادرا عليه ولا صابرا عنه ، وهذا من أعظم العذاب ، أن ترى ما لا صبر لك عن بعضه ، ولا قدرة على بعضه .
والنظر أصل عامة الحوادث التي تصيب الإنسان ، فالنظرة تولد خطرة ، ثم تولد الخطرة فكرة ، ثم تولد الفكرة شهوة ، ثم تولد الشهوة إرادة ، ثم تقوى فتصير عزيمة جازمة ، فيقع الفعل ولا بد ، ما لم يمنع منه مانع ، وفي هذا قيل : الصبر على غض البصر أيسر من الصبر على ألم ما بعده
وأعجب من ذلك : أن النظرة تجرح القلب جرحا ، فيتبعها جرح على جرح ، ثم لا يمنعه ألم الجراحة من استدعاء تكرارها
* نواع المحبة
وهاهنا أربعة أنواع من المحبة يجب التفريق بينها ، وإنما ضل من ضل بعدم التمييز بينها .
أحدها : محبة الله ، ولا تكفي وحدها في النجاة من عذاب الله والفوز بثوابه ، فإن المشركين وعباد الصليب واليهود وغيرهم يحبون الله .
الثاني : محبة ما يحب الله ، وهذه هي التي تدخله في الإسلام ، وتخرجه من الكفر ، وأحب الناس إلى الله أقومهم بهذه المحبة وأشدهم فيها .
الثالث : الحب لله وفيه ، وهي من لوازم محبة ما يحب ، ولا تستقيم محبة ما يحب إلا فيه وله .
الرابع : المحبة مع الله ، وهي المحبة الشركية ، وكل من أحب شيئا مع الله لا لله ، ولا من أجله ، ولا فيه ، فقد اتخذه ندا من دون الله ، وهذه محبة المشركين .
وبقي قسم خامس ليس مما نحن فيه : وهي المحبة الطبيعية ، وهي ميل الإنسان إلى ما يلائم طبعه ، كمحبة العطشان للماء ، والجائع للطعام ، ومحبة النوم والزوجة والولد ، فتلك لا تذم إلا إذا ألهت عن ذكر الله ، وشغلت عن محبته ، كما قال تعالى : ياأيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله [ سورة المنافقون : 9 ] .
* أقسام الناس في العشق
والناس في العشق ثلاثة أقسام :
منهم : من يعشق الجمال المطلق ، وقلبه يهيم في كل واد ، له في كل صورة جميلة مراد .
ومنهم : من يعشق الجمال المقيد ، سواء طمع في وصاله أو لا .
ومنهم : من لا يعشق إلا من يطمع في وصاله .
وبين هذه الأنواع الثلاثة تفاوت في القوة والضعف .
فعاشق الجمال المطلق ، يهيم قلبه في كل واد ، وله في كل صورة جميلة مراد، فهذا عشقه أوسع ، ولكنه غير ثابت كثير التنقل
وعاشق الجمال المقيد أثبت على معشوقه ، وأدوم محبة له ، ومحبته أقوى من محبة الأول ، لاجتماعهما في واحد ، ولكن يضعفهما عدم الطمع في الوصال ، وعاشق الجمال الذي يطمع في وصاله أعقل العشاق وأعرفهم ، وحبه أقوى لأن الطمع يمده ويقويه .
* عشق الصور والهيئات
عشق الصور وما فيه من المفاسد العاجلة والآجلة ، وإن كانت أضعاف ما ذكره ذاكر ، فإنه يفسد القلب بالذات ، وإذا فسد القلب ؛ فسدت الإرادات والأقوال والأعمال ، وفسد ثغر التوحيد كما تقدم ، وكما سنقرره أيضا إن شاء الله تعالى .
والله سبحانه وتعالى إنما حكى هذا المرض عن طائفتين من الناس ، وهم اللوطية والنساء ، فأخبر عن عشق امرأة العزيز ليوسف ، وما راودته وكادته به ، وأخبر عن الحال التي صار إليها يوسف بصبره وعفته وتقواه ، مع أن الذي ابتلي به أمر لا يصبر عليه إلا من صبره الله ، فإن مواقعة الفعل بحسب قوة الداعي وزوال المانع ، وكان الداعي هاهنا في غاية القوة ، وذلك من وجوه :
– ما ركبه الله سبحانه في طبع الرجل من ميله إلى المرأة ، كما يميل العطشان إلى الماء ، والجائع إلى الطعام ، حتى إن كثيرا من الناس يصبر عن الطعام والشراب ولا يصبر عن النساء
– أن يوسف عليه السلام كان شابا ، وشهوة الشباب وحدته أقوى
– أنه كان عزبا ، ليس له زوجة ولا سرية تكسر شدة الشهوة .
– أنها طلبت وأرادت وبذلت الجهد ، فكفته مؤنة الطلب وذل الرغبة إليها ، بل كانت هي الراغبة الذليلة
– أنه لا يخشى أن تنم عليه هي ولا أحد من جهتها ، فإنها هي الطالبة الراغبة
ومع هذه الدواعي كلها فآثر مرضاة الله وخوفه ، وحمله حبه لله على أن اختار السجن على الزنى : قال رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه .
وعلم أنه لا يطيق صرف ذلك عن نفسه ، وأن ربه تعالى إن لم يعصمه ويصرف عنه كيدهن ؛ صبا إليهن بطبعه ، وكان من الجاهلين ، وهذا من كمال معرفته بربه وبنفسه .
* دواء العشق
ودواء هذا الداء القتال : أن يعرف أن ما ابتلي به من هذا الداء المضاد للتوحيد ، إنما هو من جهله وغفلة قلبه عن الله تعالى ، فعليه أن يعرف توحيد ربه وسنته أولا ، ثم يأتي من العبادات الظاهرة والباطنة بما يشغل قلبه عن دوام الفكرة فيه ، ويكثر اللجأ والتضرع إلى الله سبحانه في صرف ذلك عنه ، وأن يراجع بقلبه إليه ، وليس له دواء أنفع من الإخلاص لله ، وهو الدواء الذي ذكره الله في كتابه حيث قال : كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين [ سورة يوسف : 24 ] .
وأخبر سبحانه أنه صرف عنه السوء من العشق والفحشاء من الفعل بإخلاصه ، فإن القلب إذا أخلص وأخلص عمله لله لم يتمكن منه عشق الصور فإنه إنما يتمكن من قلب فارغ
* أضرار العشق
ومن المعلوم أنه ليس في عشق الصور مصلحة دينية ولا دنيوية ، بل مفسدته الدينية والدنيوية أضعاف أضعاف ما يقدر فيه من المصلحة ، وذلك من وجوه :
أحدها : الاشتغال بحب المخلوق وذكره عن حب الرب تعالى وذكره ، فلا يجتمع في القلب هذا وهذا إلا ويقهر أحدهما الآخر ، ويكون السلطان والغلبة له .
الثاني : عذاب قلبه به ، فإن من أحب شيئا غير الله عذب به ولا بد
الثالث : أن قلبه أسير قبضة غيره يسومه الهوان ، ولكن لسكرته لا يشعر بمصابه ، فقلبه كعصفورة في كف طفل يسومها حياض الردى ، والطفل يلهو ويلعب، فعيش العاشق عيش الأسير الموثق ، وعيش الخلي عيش المسيب المطلق .
الرابع : أنه يشتغل به عن مصالح دينه ودنياه ، فليس شيء أضيع لمصالح الدين والدنيا من عشق الصور
الخامس : أن آفات الدنيا والآخرة أسرع إلى عشاق الصور من النار في يابس الحطب ، وسبب ذلك : أن القلب كلما قرب من العشق وقوي اتصاله به بعد من الله ، فأبعد القلوب من الله قلوب عشاق الصور ، وإذا بعد القلب من الله طرقته الآفات ، وتولاه الشيطان من كل ناحية ، واستولى عليه لم يدع أذى يمكنه إيصاله إليه إلا أوصله ، فما الظن بقلب تمكن منه عدوه وأحرص الخلق على غيه وفساده ، وبعد منه وليه ، ومن لا سعادة له ولا فرح ولا سرور إلا بقربه وولايته ؟
السادس : أنه إذا تمكن من القلب واستحكم وقوي سلطانه ، أفسد الذهن ، وأحدث الوسواس ، وربما ألحق صاحبه بالمجانين الذين فسدت عقولهم فلا ينتفعون بها .
وأخبار العشاق في ذلك موجودة في مواضعها ، بل بعضها مشاهد بالعيان ، وأشرف ما في الإنسان عقله ، وبه يتميز عن سائر الحيوانات ، فإذا عدم عقله التحق بالحيوان البهيم ، بل ربما كان حال الحيوان أصلح من حاله ، وهل أذهب عقل مجنون ليلى وأضرابه إلا ذلك ؟ وربما زاد جنونه على جنون غيره
* إيثار الأعلى
وقد تقدم أن العبد لا يترك ما يحبه ويهواه ، ولكن يترك أضعفهما محبة لأقواهما محبة ، كما أنه يفعل ما يكرهه ؛ لحصول ما محبته أقوى عنده من كراهة ما يفعله ، أو لخلاصه من مكروه .
وتقدم أن خاصية العقل إيثار أعلى المحبوبين على أدناهما ، وأيسر المكروهين على أقواهما ، وتقدم أن هذا من كمال قوة الحب والبغض .
ولا يتم له هذا إلا بأمرين : قوة الإدراك ، وشجاعة القلب ، فإن التخلف عن ذلك والعمل بخلافه يكون إما لضعف الإدراك بحيث إنه لم يدرك مراتب المحبوب والمكروه على ما هي عليه ، إما لضعف في النفس ، وعجز في القلب ، بحيث لا يطاوعه على إيثار الأصلح ؛ لرفع علمه بأنه الأصلح ، فإذا صح إدراكه ، وقويت نفسه ، وتشجع قلبه على إيثار المحبوب الأعلى والمكروه الأدنى فقد وفق لأسباب السعادة .
فمن الناس من يكون سلطان شهوته أقوى من سلطان عقله وإيمانه ، فيقهر الغالب الضعيف ، ومنهم من يكون سلطان إيمانه وعقله أقوى من سلطان شهوته ، وإذا كان كثير من المرضى يحميه الطبيب عما يضره ، فتأبى عليه نفسه وشهوته إلا تناوله ، ويقدم شهوته على عقله ، وتسميه الأطباء : عديم المروءة ، فهكذا أكثر مرضى القلوب يؤثرون ما يزيد مرضهم ، لقوة شهوتهم له .
فأصل الشر من ضعف الإدراك وضعف النفس ودناءتها ، وأصل الخير من كمال الإدراك وقوة النفس وشرفها وشجاعتها .
فالحب والإرادة أصل كل فعل ومبدؤه ، والبغض والكراهة أصل كل ترك ومبدؤه ، وهاتان القوتان في القلب ، أصل سعادة العبد وشقاوته .
* كمال اللذة في كمال المحبوب وكمال المحبة
وهذا أمر عظيم يجب على اللبيب الاعتناء به ، وهو أن كمال اللذة والفرح والسرور ونعيم القلب وابتهاج الروح تابع لأمرين : أحدهما : كمال المحبوب في نفسه وجماله ، وأنه أولى بإيثار المحبة من كل ما سواه .
والأمر الثاني : كمال محبته ، واستفراغ الوسع في حبه ، وإيثار قربه والوصول إليه على كل شيء .
وكل عاقل يعلم أن اللذة بحصول المحبوب بحسب قوة محبته ، فكلما كانت المحبة أقوى كانت لذة المحب أكمل ، فلذة العبد من اشتد ظمؤه بإدراك الماء الزلال ، ومن اشتد جوعه بأكل الطعام الشهي ، ونظائر ذلك على حسب شوقه وشدة إرادته ومحبته .
وإذا عرفت هذا ، فاللذة والسرور والفرح أمر مطلوب في نفسه ، بل هو مقصود كل حي وعاقل ، إذا كانت اللذة مطلوبة لنفسها فهي تذم إذا أعقبت ألما أعظم منها ، أو منعت لذة خيرا منها وأجل ، فكيف إذا أعقبت أعظم الحسرات ، وفوتت أعظم اللذات والمسرات ؟ وتحمد إذا أعانت على لذة عظيمة دائمة مستقرة لا تنغيص فيها ولا نكد بوجه ما ، وهي لذة الآخرة ونعيمها وطيب العيش فيها ، قال تعالى : بل تؤثرون الحياة الدنيا والآخرة خير وأبقى [ سورة الأعلى : 16 – 17 ] .
وإذا عرفت أن لذات الدنيا ونعيمها متاع ، ووسيلة إلى لذات الآخرة ، ولذلك خلقت الدنيا ولذاتها ، فكل لذة أعانت على لذة الآخرة وأوصلت إليها لم يذم تناولها ، بل يحمد بحسب إيصالها إلى لذة الآخرة .
رؤية الله
إذا عرف هذا فأعظم نعيم الآخرة ولذاتها : هو النظر إلى وجه الرب جل جلاله ، وسماع كلامه منه ، والقرب منه ، كما ثبت في الصحيح في حديث الرؤية : فوالله ما أعطاهم شيئا أحب إليهم من النظر إليه ، وفي حديث آخر : إنه إذا تجلى لهم ورأوه ؛ نسوا ما هم فيه من النعيم .
وفي النسائي ومسند الإمام أحمد عن عمار بن ياسر – رضي الله عنه – عن النبي – صلى الله عليه وسلم – في دعائه : وأسألك اللهم لذة النظر إلى وجهك الكريم ، والشوق إلى لقائك وفي كتاب السنة لعبد الله ابن الإمام أحمد مرفوعا : كأن الناس يوم القيامة لم يسمعوا القرآن ، إذا سمعوه من الرحمن فكأنهم لم يسمعوا قبل ذلك .
وإذا عرف هذا ، فأعظم الأسباب التي تحصل هذه اللذة هو أعظم لذات الدنيا على الإطلاق ، وهي لذة معرفته سبحانه ، ولذة محبته ، فإن ذلك هو جنة الدنيا ونعيمها العالي ، ونسبة لذاتها الفانية إليه كتفلة في بحر ، فإن الروح والقلب والبدن إنما خلق لذلك ، فأطيب ما في الدنيا معرفته ومحبته وألذ ما في الجنة رؤيته ومشاهدته ، فمحبته ومعرفته قرة العيون ، ولذة الأرواح ، وبهجة القلوب ، ونعيم الدنيا وسرورها ، بل لذات الدنيا القاطعة عن ذلك تتقلب آلاما وعذابا ، ويبقى صاحبها في المعيشة الضنك ، فليست الحياة الطيبة إلا بالله .