قال ابن مالك:
باب حروف الجر سوى المستثنى منها، فمنها مِن، وقد يقال مِنا وهي لابتداء الغاية مطلقا، وللتبعيض، ولبيان الجنس، وللتعليل، وللبدل، وللمجاوزة، وللانتهاء، وللاستعلاء، وللفصل، ولموافقة الباء، ولموافقة في وإلى.
وتزاد لتنصيص العموم أو لمجرد التوكيد بعد نفي أو شبهه جارة نكرة مبتدأ أو فاعلا أو مفعولا به. ولا يمتنع تعريفه ولا خلوه من نفي أو شبهه وفاقا للأخفش. وربما دخلت على حال. وتنفرد مِن بجر ظروف لا تتصرف كقبل وبعد وعند ولدى ولدن ومع وعن وعلى اسمين. وتختص مكسورة الميم ومضمومتها في القسم بالربّ، والتاء واللام بالله. وشذّ فيه: “مُن الله وتَربّى. ([1])
وتفصيل هذه الدلالات كما يلي:
الأولى: ابتداء الغاية ([2])، وذلك يكون في المكان، كقول الله تعالى ﴿كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ﴾ ([3]) فدلَّت على مكان الخروج، وقوله تعالى: ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ﴾ ([4]) أي: كتم شهادة أتته من عند الله تعالى. قال الاستراباذي: وتعرف “من” الابتدائية، بأن يحسن في مقابلتها “إلى” أو ما يفيد فائدتها ([5]) مثال: ﴿أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ﴾ إلى مكان كذا.
ومن أمثلتها، قوله: ﴿وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ﴾ وقوله: ﴿وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً﴾
ويكون ذلك في الزَّمان، كقول الله تعالى: ﴿ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا﴾
الثانية: للتبعيض، وعلامتها “جواز الاستغناء ببعض عنها” ([6])” كما في قول الله تعالى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ﴾ ([7]) أي: بعض الناس يقول …
ومن أمثلتها: قول الله تعالى: ﴿وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ﴾ وقوله: ﴿وَمِنَ الْأَنْعامِ حَمُولَةً وَفَرْشاً﴾
الثالثة: بيان الجنس، “وتعرفها بأن يكون قبل “من” أو بعدها مبهم يصلح أن يكون المجرور بـ”من” تفسيرا له” ([8]) كما في قوله تعالى: ﴿خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ﴾ ([9]) فمادة خلق الإنسان مبهمة، والصلصال بيان لها، وكذا في الجن. ومن أمثلتها: قوله: ﴿وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ﴾
الرابعة: التعليل، وهو ذكر علّة الفعل، وعلامتها جواز وضع كلمة “أجْلِ” بعدها، كما في قوله تعالى: ﴿يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ﴾ قال ابن عاشور: وَ (مِنْ) فِي قَوْلِهِ: مِنَ الصَّواعِقِ لِلتَّعْلِيلِ أَيْ لِأَجْلِ الصَّوَاعِقِ إِذِ الصَّوَاعِقُ هِيَ عِلَّةُ جَعْلِ الْأَصَابِعِ فِي الْآذَانِ وَلَا ضَيْرَ فِي كَوْنِ الْجَعْلِ لِاتِّقَائِهَا حَتَّى يُقَالَ يَلْزَمُ تَقْدِيرُ مُضَافٍ نَحْوَ تَرْكٍ وَاتِّقَاءٍ إِذْ لَا دَاعِيَ إِلَيْهِ ([10]) ومن أمثلتها: “من” التي أدمجت مع “ما” في قوله تعالى: ﴿وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ﴾
الخامسة: البدل، وعلامتها: جواز وضع كلمة “بدلًا” قبلها، كما في قوله تعالى: ﴿أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ﴾ أي: بدلا من الآخرة.
السادسة: المجاوزة والتفضيل، أي أن ما قبلها تجاوز ما بعدها، كقولنا “الله أعظم من كل عظيم” أي: عظمته تجاوزت عظمة كل عظيم
السابعة: الانتهاء والغاية، وموافقة إلى، كما في قولنا: “دنوت من الرجل” وعلامتها أن يكون الفعل في الجملة مثل: اقترب، ودنا. كذلك (إذا قلت: “رأيت الهلال من موضعي”، فـ”مِن” لكَ، وإذا قلت: “رأيت الهلال من خلال السحاب” فـ”مِن” للهلال، والهلال غاية لرؤيتك، فلذلك جعل سيبويه “مِن” غاية في قولك: “رأيته من ذلك الموضع”) ([11])
الثامنة: الاستعلاء، كما في قوله تعالى ﴿وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا﴾([12])
التاسعة: الفصل والتمييز، وعلامة ذلك: “دُخُولِهَا عَلَى ثَانِي الْمُتَضَادَّيْنِ” ([13]) كما في قول الله تعالى ﴿وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ﴾ ([14]) قال ابن عاشور: وَ (مِنْ) فِي قَوْلِهِ: مِنَ الْمُصْلِحِ تُفِيدُ مَعْنَى الْفَصْلِ وَالتَّمْيِيزِ ([15])
العاشرة: موافقة الباء، كما في قوله تعالى: ﴿ينظرون من طرفٍ خفيّ﴾ أي: بطرف، وكقولنا: “ضربتَه من السيف” أي بالسيف.
الحادية عشرة: موافقة في، كما في عدي بن زيد: “عسى سائلٌ ذو حاجةٍ إنْ مَنَعْتَه … من اليوم سُؤْلًا أنْ يُيَسَّرَ في غد” من اليوم: أي في هذا اليوم.
خاتمة
تبيّن لنا مما سبق مجيء هذا الحرف لدلالات مختلفة، كما أن لغيره من حروف المعاني مثل ما له، فوجب على الناظر في كتاب الله فهمها لتبين له معاني الآيات الكريمة. على أن هناك من معانيه ما يُفهم بالسليقة، أو مِن السياق، إلا أنه لا يخلو الأمر من لبس، خاصة وأن العجمة شاعت في أوساط المسلمين، وأن هناك من يلبِّس على الناس في بعض المواضع، فحسن بطالب العلم العناية في هذا الباب المهم في لغة العرب التي نزل بها خير الكتب، وتكلم بها خاتم الرُّسُل.
* * *
([5]) شرح الرضى على الكافية ج4ص256
([6]) قال ابن مالك في شرح التسهيل ج3ص134
([8]) قاله الاستراباذي في شرح الكافية ج4ص266