خرج البخاري في صحيحه من حديث أبي هريرةؓ عن النبي-ﷺ-قال: «لن يُنجِّي أحد منكم عمله»
قالوا: „ولا أنت يا رسول الله؟”.
قال: «ولا انا إلا أن يتغمدني الله برحمته، سددوا وقاربوا واغدوا وروحوا وشيء من الدُّلجة، والقصد القصد تبلغوا»
سددوا: العمل بالسداد، وهو القصد والتوسط في العبادة فلا يفرط بما أمر به، ولا يحمل منها ما لا يطيقه.
قاربوا: التوسط بين التفريط والإفراط فهما كلمتان بمعنى متقارب.
اغدوا وروحوا وشيء من الدُّلجة: أي أن هذه الأوقات تكون أوقات السير إلى بالطاعات، آخر الليل وأول النهار وآخره.
القصد القصد تبلغوا: حث على الاقتصاد فيها بني الغلو والتقصير، ولذا تكرر مرة بعد أخرى)
وخرَّج البخاري هذا الحديث بطرق وألفاظ أخرى، وقد اشتمل هذا الحديث بكل طرقه وألفاظه على أصل عظيم، وقاعدة مهمة، وتتفرع عنه مسائل عديدة.
-الأصل:
هو أن عمل المرء لا يكون سبب نجاته من النار أو دخوله الجنة، وان لا شيء من هذا يكون دون رحمة الله ومغفرته.
وقد دل على هذا الأصل جمع من الآيات الكريمة في كتاب الله العزيز اقترن فيها العمل بمغفرة الله ورحمته.
وقال بعض السلف”: الآخرة إما عفوا الله أو النار، والدنيا إما عصمة الله أو الهلكة”.
-معنى النعم والحمد منها:
روى ابن ماجة من حديث أنس مرفوعا: «ما أنعم الله على عبد نعمة فقال الحمد لله: إلا كان ما أُعطيَ أفضل مما أخذ». وكذا قال عمر بن عبد العزيز والحسن ونخبة من السلف.
أشكل الحديث أعلاه على العلماء، إلا أن ظاهره أن النعم هي الدنيوية وأن الحمد من النعم الدينية،
ولما كان حمد العبد مقرونا بقيامه به، أعطاه الله لأعظم النعمتين، مكافئا بها للنعمة الأخرى.
وبهذا الاعتبار يكون الحمد ثمنا للجنة.
-الجنة والعمل من فضل الله:
لهذا يقول الله: ﴿وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَٰذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ ۖ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ﴾ [الأعراف-43-]
فلما أقروا بنعم الله عليهم وحمدوه عليها، جزاهم الله: ﴿وَنُودُوا أَن تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ [الأعراف-43-]
-الشقاء والسعادة بعدله ورحمته جل وعلا:
وكما يتحقق به معنى قول النبي: „لن يدخل أحد الجنة بعمله”، أو “لن ينجي أحدا عمله”، أن مضاعفة الحسنات إنما هي من فصل ﷲ وإحسانه، حيث جازى بالحسنة عشرا ثم ضاعفها إلى سبعمائة ضعف إلى اضعاف كثيرة، فهذا كله فضل منه، ولو جازى الحسنات كالسيئات لم تقوى الحسنات على إحباط السيئات، فكان يهلك صاحب العمل لا محالة.
من أراد الله سعادته أضعف حسناته حتى يستوفي منها وينال الغرماء، ويبقى له منها مثقال ذرة فتضاعف ويدخل بها الجنة بفضل الله ورحمته.
ومن أراد الله شقاوته وله غرماء لم تضاعف له حسناته كالذي أراد الله سعادته، بل يضاعفها عشرة وتنقسم على الغرماء فيستوفونها كلها، وتبقى لهم عليه مظالم فيطرح عليه من سيئاتهم فيدخل بها النار فهذا عدله وذاك فضله.
-ما يجب على العبد معرفته:
أن العمل مهما كثر وحسن لا يكون سببا في نجاته من النار أو دخوله الجنة، حينئذ ييأس العبد من عمله فلا يتكل عليه، ويرى دوما أنه مقصر فيه فيشرع بالتوبة والاستغفار.
-الشكر أعظم النعم:
ينبغي لمن حسن وكثر عمله أن يكثر من الشكر وأن يرى دائما أنه مقصر بالشكر فيكثر منه، وذلك من أعظم نعم الله على عبده.
-العمل لا يوجب النجاة:
من أحسن ما قال أبو بكر النهشلي يوم مات داوود الطائي وقام ابن السماك بعد دفنه يثني عليه بصالح عمله ويبكي، والناس يبكونه ويصدقون على مقالته ويشهدون بما يثني عليه، فقام ابو بكر النهشلي فقال: اللهم اغفر له وارحمه ولا تكله إلى عمله.
-الاعتراف بفضل الله تعالى:
يجب على المؤمن المقر بما جاء اعلاه، أن يقطع نظره عن عمله بالكلية، وأن لا ينظر إلا إلى فضل الله ومنته عليه.
-ما على العبد المؤمن للفوز والنجاة:
يجب على طالب النجاة والفوز بالجنة، الراجي التقرب من الله ورؤيته في الآخرة، ان يطلب كذلك الأسباب الموصلة لرحمة الله ومغفرته ورضاه ومحبته.
هناك أعمالا تكون سببا في الوصول لكل ذلك، وليس ذلك موجودا إلا في ما شرعه الله لعباده على لسان رسوله.
الإحسان والتقوى خصال شرعها الله في كتابه أو على لسان رسوله والتي يجب على العبد أن يتسم بها، وهي الطريق الموصلة للتقرب من الله ونيل رحمته ومغفرته ورضوانه.
-أحب الأعمال إلى الله:
كما ورد في الأحاديث النبوية الشريفة ان أحب الأعمال إلى الله شيئان:
_ما داوم عليه صاحبه وإن كان قليلا.
وهكذا كان عمل النبي ﷺ وآله وأزواجه من بعده وكام ينهى عن قطع العمل.
_ما كان على وجه السداد والاقتصاد والتيسير، دون ما كان على وجه التكلف والاجتهاد والتعسير.
كقوله تعالى: ﴿يُريْد ﷲ بِكُمُ اليُسْرَ ولَا يُرِيدُ بِكُمُ العُسْر﴾ [البقرة-185-].
-بيان ما تفوق به الصحابة:
إن الصحابة فاقوا من بعدهم بشدة التعلق بالآخرة ورغبتهم فيها وأعرضوا عن الدنيا فحقروها، فكانت قلوبهم ممتلئة بالآخرة فارغة من الآخرة.
-قاعدة جليلة:
أفضل الناس من اتبع النبي، وأصحابه من بعده في الاقتصاد في العبادة البدنية والاجتهاد في الأحوال القلبية، فسفر الآخرة يقطع بسير القلوب لا الأبدان.
-سلوك صراط الله تعالى:
إن الطريق الوصلة لله، تكمن في سلوك الصراط المستقيم الذي بعث الله به رسوله وأنزل كتابه، وأمر الخلق بسلوكه والسير فيه.
-الأعمال بالخواتيم:
قد يسلك المرء احيانا الصراط المستقيم ثم ينحرف عنه في آخر عمره ويسلك سبيل الشيطان ويعرض عن الله فيهلك،
ولربما يكون المرء سالكا لمسالك الشيطان في أول عمره ثم يهديه الله إلى الصراط المستقيم فيسعد.
-فضل التقرب إلى الله تعالى:
يقول الله تعالى في الحديث القدسي الصحيح: „من تقرب مني شبرا تقربت منه ذراعا، ومن تقرب مني ذراعا تقربت منه باعت، ومن أتاني يمشي اتيته هرولة”
يا هذا لو أنك قصدت باب والي الشرطة، لما أقبل إليك ولما تلقاك، ولربما أقصاك، وملك الملوك يقول: „من أتاني يمشي أتيته هرولة”؛ وانت عنه معرض مقبل على غيره، لقد خسرت خسرانا كبيرا.
-أنواع الوصول إلى الله:
نوعين أحدهما في الدنيا والآخر في الآخرة.
فالوصول الدنيوي يقصد به أن القلوب تصل إلى معرفته، فإذا عرفته أحبته، وأنًست به، فوجدته منها قريبا لدعائها مجيبا.
وأما الوصول الأخرى فالدخول إلى الجنة التي هي دار كرامة الله لأوليائه، ولكنهم في درجاتها متفاوتون في القرب بحسب تفاوت قلوبهم في الدنيا في القرب والمشاهدة بحسب تفاوت قلوبهم في الدنيا في القرب والمشاهدة.
-حال من التزم بالإسلام أو الإيمان أو الإحسان:
الصراط المستقيم ثلاث درجات: الإسلام، الإيمان، الإحسان.
_من سلك درجة الإسلام منعته من الخلود في النار، ولم يكن له بد، وإن كان قد أصابه قبل ذلك ما أصابه.
_من سلك درجة الإيمان منعته من دخول النار بالكلية، فإن نور الإيمان يطفئ نار جهنم حتى تقول:
“يا مؤمن جُز قد أطفأ نورُك لهب”.
_ومن سلك درجة الإحسان وصل بعد الموت إلى الله ﴿لِلَّذِينَ أَحسَنُوا الحُسْنَى وزيَادَة﴾ [يونس-26-]
ويكرمهم ربهم برؤيته لكن بدرجات متفاوتة، وأهل الجنة يرون يوم المزيد وهو يوم الجمعة، ومن خواصهم رؤية وجه ربهم مرتين يوميا بكرة وعشيا.
-فضل وقتي الغداة والعشي والمقصود بهما:
لما كان هذان الوقتان في الجنة موعدي الرؤية حض رسول الله، على المحافظة على الصلاة في هذين الوقتين في الدنيا.
فكن حافظ على هاتين الصلاتين وحرص على اتمامهما والخشوع والحضور فيهما وحقق شروطها، فإنه يرجى له أن يكون ممن يرى الله في هذين الوقتين في الجنة.
فمن حافظ على الأذكار وأنواع العبادات حتى تطلع الشمس أو تغرب، ووصل ذلك بدلجة الليل فقد حقق السير في الأوقات الثلاثة، وإن صدقه في سيره يوصله إلى ما يطلبه
﴿فِي مَقعَد صِدقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُقْتَدِر﴾ [القمر-55_]
-حال من ركن إلى الآخرة ومن ركن إلى الدنيا:
قيمة المرء فيما يطلب، فإن كان يطلب الله فلا قيمة له من طلب ﷲ فهو أجل من أن يقوَّم، ومن طلب غيره فهو أخس من أن يكون له قيمة.
قال الشبلي: “من ركن إلى الدنيا أحرقته بنارها فصار رمادا تذروه الرياح، ومن ركن إلى الآخرة أحرقته بنورها فصار سبيكة ذهب يُنتفع به، ومن ركن إلى الله أحرقه بنور التوحيد فصار جوهرا لا قيمة له”.
-فصل في قوله تعالى: ﴿وبدَا لَهُم مِنَ ﷲ مَا لَم يَكُونُوا يَحتَسِبُونَ﴾ [الزمر-47-]
تشتد هذه الآية على الخائفين من العارفين، وتقتضي أن من العباد يبدو له عند لقاء ﷲ ما لم يكن يحتسب، كأن يكون غافلا عما بين يديه معرضا عنه غير عامل به ولا يحتسب له فإذا انكشف عنه الغطاء، عاين تلك الأهوال العظيمة، فبدا له ما لم يكن في حسابه.
ولهذا قال عمر رضي ﷲ عنه: “لو أن لي ملء الأرض ذهًبا لافتديت به من هول المطلع”
* * * تم بحمد الله تعالى * * *