إثبات المكان لله تعالى

بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد.

هذا مبحث في إثبات المكان لله تعالى

 

روى البخاري في قصة المعراج: «‌فعلا ‌به ‌إلى ‌الجبار، فقال وهو مكانه: (يا رب خفف عنا، فإن أمتي لا تستطيع هذا).». [صحيح البخاري (6/ 2732)]

والنبي صلى الله عليه وسلم صعد، فلا يجوز أن يقال عنه (وهو مكانه) أما الله فعلى عرشه باقٍ، فجاز أن يقال عنه (وهو مكانه).

فإن قالوا: العبارة (قال وهو مكانه) كلمة (قال) أي النبي ص، فتكون (هو) التي بعدها ضمير عائد إليه، قلنا: غلط لأنها لن يكون لها معنى.

فإن قالوا: أراد مكانه الأول الذي كان فيه أول مرة، قلنا: إذا عبر العرب بقولهم (فلان فعل كذا وهو مكانه) لا يراد بذلك إلا نفي تغيير المكان، فلا تقول مثلا (ذهبت إلى العمل وجلست وأنا مكاني) بل (وجلست في مكاني) فالأولى يفهم منها أنك نفيت انتقالك إلى العمل بعد قولك إنك ذهبت، فلو أريد مكانه الأول وجب أن يقال (فقال وهو في مكانه الأول)

وهذه الرواية رويت مفسرة عند ابن خزيمة «فعلا به جبريل، حتى أتي إلى ‌الجبار ‌وهو ‌مكانه فقال: يا رب خفف». [التوحيد لابن خزيمة (2/ 527)] وهذا لفظ صريح، فإن كانت الرواية أصح من التي في البخاري فقد تمت الحجة، وإن كانت رويت بالمعنى فهو فهم السلف، فتمت الحجة. فما حجة من يلجأ إلى كلام التجهم؟

فقد رواها البخاري عن عبد العزيز بن عبد الله عن سليمان بن بلال عن شريك
وابن خزيمة عن الربيع بن سليمان عن عبد الله بن وهب

وهل هناك أجل من الربيع ابن سليمان من أهم أصحاب الشافعي، وشيخه عبد الله بن وهب المصري من أهم أصحاب مالك؟

 

إن مما يلاحظه المتتبع لشروح الحديث يجد فيها تكرار لما جاء به أوائلهم من صد عن الحق في صفات رب العالمين.

فأول من نشر شرحا للبخاري كان الخطابي فجاء إلى هذا الحديث فقال: : «‌والمكان لا يضاف إلى الله سبحانه وتعالى، إنما هو مكان النبي صلى الله عليه وسلم». [أعلام الحديث (4/ 2355)]

وتتابع عليه الشراح وكأنها آية مصحف:

«‌والمكان لا يضاف إلى الله سبحانه، إنما هو مكان النبي صلى الله عليه وسلم». [الأسماء والصفات – البيهقي (2/ 359)]

«‌وَالْمَكَان لَا يُضَاف إِلَى الله سبحانه وتعالى». [الجمع بين الصحيحين للحميدي (2/ 548)]

«‌وَهُوَ ‌مَكَانَهُ، ‌وَالْمَكَان لَا يُضَاف إِلَى الله تَعَالَى، وَإِنَّمَا هُوَ مَكَان النَّبِي صلى الله عليه وسلم». [كشف المشكل من حديث الصحيحين لابن الجوزي (3/ 212)]

«‌والمكان لا يضاف إلى الله، إنما هو مكان الشيء في مقامه الأول». [التوضيح لشرح الجامع الصحيح لابن الملقن (33/ 484)]

«‌والمكان لا يضاف إلى الله تعالى إنما هو مكان النبي صلى الله عليه وسلم». [فتح الباري لابن حجر (13/ 484 ط السلفية)]

«‌المكان لا يضاف إليه تعالى والجواب أن الضمير لرسول الله صلى الله عليه وسلم». [الكوثر الجاري إلى رياض أحاديث البخاري لأحمد الكوراني (11/ 289)]

«‌والمكان لا ينسب إلى الله تعالى، إنما هو مكان النبي صلى الله عليه وسلم. [سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد للصالحي (3/ 156)]

«‌والمكان لا يضاف إلى الله تعالى، إنما هو مكان النبي عليه الصلاة والسلام». [كوثر المعاني الدراري في كشف خبايا صحيح البخاري لمحمد الخضير الشنقيطي (6/ 337)]

 

وأما إثبات المكان

أولا:

فقولك: (فوق العرش) فإن لم يكن ذلك مكان فقد انتقلت إلى التعطيل أو التفويض، لأن كلمة فوق هي تعبير عن مكان الشيء، فإن نفيت المكان فقد عطَّلتَ الفوقيَة، وجعلتها فوقية مكانة ورُتبة.

قال ابن فورك الأشعري قبل أن يحرف حديث (أين الله): «الْكَلَام فِيمَا يتَضَمَّن قَوْله صلى الله عليه وسلم ‌أَيْن ‌الله فَإِن ظَاهر اللُّغَة تدل من لفظ أَيْن أَنَّهَا مَوْضُوعَة للسؤال عَن ‌الْمَكَان ويستخبر بهَا عَن ‌مَكَان المسؤول عَنهُ بأين … وَهَذَا هُوَ أصل هَذِه الْكَلِمَة». [مشكل الحديث وبيانه (ص158)] فثبتت الحجة على الخصم من كلام إمامه، وأما تحريفه بعد ذلك فلا قيمة له.

وقال أبو يعلى الحنبلي: «الحقيقة في هذه اللفظة أنها استفهام عن ‌المكان دون المنزلة والرتبة، وإنَّما تُستعمل في ذلك على طريق المجازة، فكان حملها على الحقيقة أولى.». [إبطال التأويلات (ص278 ط غراس)]

 

ثانيًا:

الحديث الذي في البخاري:«‌فعلا ‌به ‌إلى ‌الجبار، فقال وهو مكانه: (يا رب خفف عنا، فإن أمتي لا تستطيع هذا).». [صحيح البخاري (6/ 2732)]

وعند ابن خزيمة: «فعلا به جبريل، حتى أتي إلى ‌الجبار ‌وهو ‌مكانه فقال: يا رب خفف». [التوحيد لابن خزيمة (2/ 527)]

 

ثالثًا:

قال رسول الله في حديث الشفاعة: «‌فأستأذن ‌على ‌ربي ‌في ‌داره فيؤذن لي عليه». [صحيح البخاري (6/ 2708)]

 

رابعا:

عن جابر بن عبد الله الأنصاري، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ” إن الله ينزل كل ليلة إلى السماء الدنيا لثلث الليل فيقول: «ألا عبد من عبادي يدعوني فأستجيب له، أو ظالم لنفسه يدعوني فأغفر له، ألا مقتر عليه فأرزقه، ألا مظلوم يستنصر فأنصره، ألا عان يدعوني فأفك عنه، فيكون ذلك ‌مكانه حتى يصلى الفجر، ثم ‌يعلو ‌ربنا عز وجل إلى السماء العليا على كرسيه» [النزول للدارقطني 7 والصفات لابن المحب 1032] ضعيف جدا لأجل عبد الله بن سلمة بن أسلم

 

أما مِن كلام السلف

«عن مجاهد في قوله عز وجل: {وقربناه نجيا} قال: … ‌فلما ‌رأى ‌مكانه ‌وسمع صريف القلم؛ قال: {رب أرني أنظر إليك}». [العظمة لأبي الشيخ الأصبهاني (2/ 690)] [الأسماء والصفات للبيهقي (2/ 294)] قال الذهبي:«هَذَا ثَابت عَن مُجَاهِد إِمَام التَّفْسِير». [العلو للعلي الغفار (ص128)]

«سأل بشر بن السري حماد بن زيد فقال: يا أبا إسماعيل الحديث الذي جاء: {ينزل ربنا إلى سماء الدنيا} يتحول من مكان إلى مكان؟ فسكت حماد بن زيد ثم قال: ‌هو ‌في ‌مكانه ‌يقرب ‌من ‌خلقه كيف شاء. ورواه ابن بطة في كتاب ” الإبانة “». [مجموع الفتاوى (5/ 376)] وصححه ابن تيمية.

قال البخاري: وقال الفضيل بن عياض: إذا قال لك جهمي: أنا أكفر برب يزول عن ‌مكانه، فقل: «أنا أؤمن برب يفعل ما يشاء». [خلق أفعال العباد للبخاري (ص36)] وجه الشاهد أنه لم ينكر عليهم لفظة المكان.

قال الدارمي: «فمن ادعى أنه ليس لله حد فقد رد القرآن وادعى أنه لاشيء لأن الله تعالى ‌وصف ‌حد ‌مكانه ‌في ‌مواضع ‌كثيرة ‌من ‌كتابه». [النقض ص102]

 

من كلام المتقدمين

قال ابن قتيبة: «ولو أن هؤلاء رجعوا إلى فطرهم وما ركبت عليه خلقتهم من معرفة الخالق سبحانه، لعلموا أن الله تعالى هو العلي، وهو ‌الأعلى، ‌وهو ‌بالمكان ‌الرفيع، وإن القلوب عند الذكر تسمو نحوه، والأيدي ترفع بالدعاء إليه.». [تأويل مختلف الحديث (ص394)]

قال حرب الكرماني: «والجهمية أعداء الله: وهم الذين يزعمون أن القرآن مخلوق وأن الله لم يكلم موسى، وأن الله لا يتكلم، ولا يرى، ولا ‌يعرف ‌لله ‌مكان». [مسائل حرب الكرماني (3/ 980)] فعد نفي المكان قولا للجهمية.

قال عثمان الدارمي: «وفي قول رسول الله صلى الله عليه وسلم أين الله، تَكذِيبٌ لقول من يقول: (هو في كل مكان، لا يُوصَفُ بِأَين)؛ لأن شَيئًا لا يخلو منه مكان؛ يستحيل أن يُقَالُ: أين هو، ‌ولا ‌يُقَال ‌أَين ‌إلا ‌لمن ‌هو ‌في ‌مكان يخلو منه مكان».. [الرد على الجهمية – ت الشوامي (ص52)]

وقال: «وكيف يهتدي بشر للتوحيد، ‌وهو ‌لا ‌يعرف ‌مكان واجده». [نقض الدارمي – ت الشوامي (ص42)]

قال الطبري: «وقال آخرون: معنى ذلك: وهو ‌العلي ‌على ‌خلقه ‌بارتفاع ‌مكانه عن أماكن خلقه، لأنه تعالى ذكره فوق جميع خلقه وخلقه دونه، كما وصف به نفسه أنه على العرش، فهو عال بذلك عليهم.». [تفسير الطبري (5/ 406 ط التربية والتراث)]

عن أبي إسماعيل الهروي: «وقالوا [الجهمية]: هو من فوق كما هو من تحت، لا يدرى أين هو، ‌ولا ‌يوصف ‌بمكان». [التسعينية (3/ 991)] فنفي المكان قول للجهمية.

 

ومن المتأخرين

قال ابن عبد البر: «وقد قال المسلمونَ وكلُّ ذي عقلٍ: إنَّه لا يُعْقَلُ كائنٌ لا في ‌مكانٍ منّا، وما ليسَ في ‌مكانٍ فهو عَدَم.». [التمهيد – ابن عبد البر (5/ 146 ت بشار)]

وقال: «فإن قال قائلٌ منهم: إنّا وَصَفْنا ربَّنا أنَّه كان لا في مكانٍ، ثم خَلَق الأماكنَ فصار في مكانٍ، وفي ذلك إقرارٌ مِنّا بالتغييرِ والانتقالِ؛ إذ زالَ عن صِفتِه في الأزل، وصار في مكانٍ دونَ مكانٍ. قيل له: وكذلك زعَمتَ أنت…». [التمهيد – ابن عبد البر (5/ 146 ت بشار)] فأقرهم ولم ينكر قولهم، وإنما ألزمهم مذهبهم.

وقال: «نقولُ: ‌استَوى ‌من ‌لا ‌مكانٍ ‌إلى ‌مكانٍ». [التمهيد – ابن عبد البر (5/ 147 ت بشار)]

قال ابن بطة: «‌نقول: ‌إن ‌ربنا ‌تعالى ‌في ‌أرفع ‌الأماكن، وأعلى عليين، قد استوى على عرشه فوق سماواته، وعلمه محيط بجميع خلقه». [الإبانة الكبرى – ابن بطة (7/ 141)]

قال الدشتي: «فمن مذهب أصحاب الحديث الذين هم أهل السنة وأئمةُ المسلمين وعلماءُ بيانٍ يعتقدون ويشهدون: أن من قال: “ليس لله تعالى حدٌّ” يعني بذلك: أن الله في كل مكان، أو “ليس هو على العرش استوى كما تقرر في قلوب العامة”، أو ليس سبحانه “شخص” ولا “شيء”، أو ليس لله جهة، ولا له مكانٌ؛ فقد ارتد عن دين الإسلام، ولحق بالمشركين، وكفر بالله وبآياته وبما جاء به رسوله ﷺ، تعالى الله عما يقول خصومنا عُلُوًّا كبيراً» [إثبات الحد ص180]

قال ابن تيمية: «بل هم متفقون على أن الله بقدرته الذي يمسك العرش وحملة العرش وسائر المخلوقات هذا مع ما جاء في الآثار من ‌إثبات ‌مكانه ‌تعالى». [بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية (3/ 622)]

قال ابن رجب: «وأما المكان: ففيه نزاع وتفصيل. وفى الصحيحتين إثبات ‌لفظ ‌المكان». [ذيل طبقات الحنابلة لابن رجب (2/ 24)]

 

فائدة:

ردًّا على من أوجب التفصيل

قال عثمان الدارمي: «‌وأما اشتراطك على من سألك: ‌أين ‌الله؟ فتقول له: إن كنت تريد كذا وكذا، فهذا شرط باطل، لم يشترط ذلك أحد من الأمة على أحد أراد أن يعرف الله؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم حين سأل الأمة السوداء «‌أين ‌الله؟» لم تشترط على النبي صلى الله عليه وسلمكما اشترطت أنت، إن كنت تريد حلولا كحلول كذا وكذا، ولكن قالت: «في السماء»، فاكتفى منها النبي صلى الله عليه وسلم بذلك ولم يقل لها: كيف كينونته في السماء، وكيف حلوله فيها؟» [نقض الدارمي على المريسي – ت الشوامي (ص195)]

التسجيل في الجريدة الإلكترونية

عند التسجيل ستصلك مقالات الشيخ الجديدة, كل مقال جديد يكتبه الشيخ سيصلك على الإيميل

(Visited 329 times, 4 visits today)
إثبات المكان لله تعالى
تمرير للأعلى