تخريج الفروع فقهية على أصول نحوية

بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله

هذا بحث في بيان أهمية النحو في تخريج الفروع الفقهية، وسيكون معتمدًا على ذكر أمثلة ذلك.

 

أهميَّة النحو

قال الله تعالى ذكره: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ ولا يمكن أن يعقل كلامه دون فهم للغة العرب، ولا تُفهم لغة العرب إلا بتعلّم النحو.

ولهذا حض السلف على العناية به، ومن ذلك:

قال الأصمعي اللُّغوي وهو مِن علماء أهل السنة عبد الملك بن قريب رحمه الله: إن أخوف ما أخاف على طالب العلم إذا لم يعرف النَّحو أن يدخل في جملة قوله عليه الصَّلاة والسَّلام «من كذب علي متعمِّدًا فليتبوَّأ مقعده من النَّار» ([1])  وذلك أن رسول الله ﷺ لا يلحن، فمن نسب إليه كلاما ملحونًا فإن ذلك لا يجوز. ويُخشى عليه من الدخول في الوعيد.

وقال الإمام المحدِّث التابعي شُعبة بن الحجاج: “إذا كان المُحدِّث لا يعرف النَّحو فهو كالحمار يكون على رأسه مخلاة ليس فيها شعير” ([2])

وقال الإمام محمد بن سلَام البيكندي -أحد علماء السلف، وممن روى عنهم البخاري-: مَا أَحدث النَّاس مروءةً أفضل من طلب النَّحو ([3])

ومن أهميته ما نحن بصدده، وهو تعلق فهم أحكام الشريعة والفروع الفقهية على فهمه.

فاعتمدت على كتاب ” الكوكب الدري فيما يتخرج على الأصول النحوية من الفروع الفقهية” للإسنوي، فأخذت منه الأصول التي رأيت أن فروعها كثيرة الوقوع فذكرتها، وذكرت عددا من المسائل مما سبقت لي دراسته في مواضع أخرى.

المسألة الأولى

الضمير إذا سبقه مضاف ومضاف إليه وأمكن عوده على كل منهما على انفراد، فهل يعود على المضاف أم المضاف إليه

هذه مسألة اختلفوا فيها ويبنى على هذا الاختلاف آثارُا في الفروع، منها:

1-  قوله تعالى ﴿أَو لحم خِنْزِير فَإِنَّهُ رِجْس﴾

فإن كان الضمير يعود على المضاف؛ كان لحم الخنزير هو النجس، وإن كان الضمير يعود على المضاف إليه؛ كان الخنزير نجسًا كله.

2-  لو قال: بعتك بيت موكلي وحديقته

فإن كان الضمير يعود على المضاف؛ كان المباع مع البيت حديقة البيت، وإن كان الضمير يعود على المضاف إليه؛ كان المبيع مع البيت حديقة يملكها الموكل.

المسألة الثانية

الجملة الإسمية إذا كانت جوابا للشرط فيمكن حذف المبتدأ منها، كقول الله تعالى: ﴿الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ﴾ والمعنى: فعليه الوصية.

ويبنى على هذه المسألة فروع، منها:

3-  إذا قال: إذا دخلت الدار فطالق

فإن كانت له زوجة واحدة؛ وقع الطلاق عليها لأن المعنى (فزوجه طالق) وإن كان له أكثر من واحدة؛ وقع الطلاق على إحداهم وعليه أن يحدد.

 

المسألة الثالثة

الخبر يقع على المعطوف والمعطوف عليه كليهما خلافًا لأبي حنيفة([4]). ومن الفروع التي تبنى على هذه القاعدة

4-  لو قال في وصيته: ثلث مالي لمعهد تحفيظ القرآن، ولدار الحديث، إذا فتحوا درسا لكبار السن.

فإن الشرط يتوجه إلى معهد التحفيظ، وإلى دار الحديث، لا إلى أقرب مذكور.

 

المسألة الرابعة

المضارع بعد “إن” الشرطية يكون مجزوما. من فروع هذه المسألة

5-  لو قال: إن تدخلين الدار فأنت طالق

فإذا كان عالما بالسان فلا يقع الشرط.

 

فرع ثان:

6-  لو قال: إن تدخل زوجتي الدار فهي طالق

إذا أراد “إن الشرطية” فلا يقع الطلاق حتى تدخل زوجته الدار، وإذا أردا “إن” النافية فإن زوجته تطلق بالحال.

 

فرع ثالث:

7-  لو قال: أهَبُ بيتي لفقراء المسلمين

فالمفرد قد يراد به الجنس، فيكون المراد: جميع بيوته، وقد يراد به معيَّن، فيتعين بيت واحد من بيوته في سبيل الله. لكن لو قال (أهَبُ بيتي جميعًا لفقراء المسلمين) توجه إلى جميعها لزامًا

 

المسألة الخامسة

كل، وأجمَع، وجَميع تفيد نفي الاستثناء غير الصريح. ومن فروع هذه المسألة

8-  لو قال: اعطيتك مالي

فإنه إذا أضمر شيئًا استثناه؛ فإن ذلك الاستثناء يصح عند جماعة من الفقهاء، لكنه لو قال (اعطيتك مالي كله) فلا يصح الاستثناء إلا الصريح، كما في قول الله عن إبليس ﴿فبعزتك لأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين﴾

 

المسألة السادسة

التأكيد بـ”أجمعين” لا يفيد اتحاد الوقت عند الجمهور، وقال بعضهم بل يفيد ذلك. ومن فروع هذه المسألة

9-  لو قال لوكيله: جعلت لك عشرة دراهم على أن تبيع إبلي أجمعين

فعلى قول من قال ان “أجمعين” تفيد اتحاد الوقت، فإن الوكيل لا يأخذ الجعل إلا إذا باعها دفعة واحدة، وعلى قول الجمهور، فإن له الجعل لو باعها كلها متفرقة، وهذا الأصوب، لما في كتاب الله ان ابليس قال ﴿فبعزتك لأغوينهم أجمعين﴾ والإغواء يكون بأوقات متفرقة. لكن لمن قال باتحاد الوقت أن يقول: هو أراد (لأغوينهم كلهم مرة واحدة) من باب المبالغة.

 

10-                لو شهد شاهد على قضيتي زنا، فقال: رأيتهم يزنون أجمعين، وقال سائر الشهود بأن كل زانيين زنيا في وقت مختلف

فعلى قول الجمهور، فإن الشهادة تصح بشروطها (العدد والعدالة)، وعلى قول الذين قالوا باتحاد الوقت؛ فإن الشهادة تسقط لمخالفته شهادة الجمهور.

المسألة السابعة

اختلف العلماء في اشتراط اتحاد اللفظ في التأكيد. وفي المسألة من الفروع:

11-                لو قال: بيتي لك، داري لك. وكان له أكثر من بيت

فعلى قول من قال: لا يشترط اتحاد اللفظ، فإن بيتا واحدا وُهِب، وعلى القول الآخر فإن الموهوب بيتان.

12-                لو قال لزوجته: أنت طالق، أنت مسرحة.

فعلى قول من قال: لا يشترط اتحاد اللفظ، فإن حكمه كحكم من أكَّد الطلاق بتكرير اللفظ، وعلى القول الآخر فإن حكمه كحكم من طلَّق مرتين.

13-                لو قال: أقسمت بالله أن أفعل، يمين علي أن أفعل، أحلف بالله أن أفعل.

فعلى قول من قال: لا يشترط اتحاد اللفظ، فإنه حلف مرة واحدة وأكدها، وعلى القول الآخر فإنه حلف ثلاث أيمان. وهل عليه عند ذلك أكثر من كفارة مع ان العمل واحدا؟ فيه خلاف ضعيف وعند الجمهور كفارة واحدة.

 

المسألة السابعة

حرف “لو” يطلق مع الماضي من حيث المعنى سواءً كان الفعل الذي يليه بصيغة الماضي أو المضارع، ويأتي مع المستقبل على معنى الشرط، مثل “إذا”

14-                لو قال: حررت عبدي لو حفظ القرآن

فهنا لابد من الرجوع إليه والاستفصال عن قصده، إن كان قصد خبرًا في الماضي، أو شرطًا للمستقبل.

وفرع ثان في الوصايا

15-                لو كتب: يرث فلان سيفي لو جاهد في سبيل الله

فهذا قد يحمل على أنه يريد أن يورثه سيفه لو ثبت انه سبق له الجهاد، أم انه سيورثه سيفه إذا نفر لاحقا إلى الجهاد. والحكم في ذلك يعود إلى النظر في القرائن، مثل انه لو كان ملازما له في وقت كان فيه جهاد قائم فهو يعلم حاله في الماضي، ووصيته عن مستقبل، والقرائن المنوطة بهذا كثيرة، ليس هذا مجال تفصيلها.

 

المسألة الثامنة

حرف “لولا” هو حرف امتناع لامتناع، فهل يثبت الوجود إذا انتفى الامتناع.

16-                لو قال: وهبتك هذه الدابة لولا أن سببتني

فهل لو ثبت أن الثاني لم يسب الأول تثبت الهبة بهذه العبارة أم لا. والأولى أن يقال لا تثبت الهبة لكونها خبر عن نية في الماضي.

 

 المسألة التاسعة

إذا حكم على أنثى بصفة ذكر، أو على ذكر بصفة أنثى؛ فإنه لا يقع لعدم وقوع هذه الصفة على الموصوف.

17-                لو قال لعبده: أنتَ حُرَّةٌ

فإنه لا يعتق لأنه لو عتق صار حرًّا لا حرّة، فيستحيل انطباق الوصف عليه. إلا أن هذا لحن شائع عند الأعاجم، فلا تنطبق على كلامهم هذه القاعدة.

 

المسألة العاشرة

العدد من ثلاثة إلى عشرة يخالف المعدود تذكيرًا وتأنيثًا

18-                لو قال: أوصيت لفلان بثلاثة من الإبل. أو قال: بثلاث من الإبل

فعلى الجملة الأولى يُعطى الموصى له ثلاث نياق، وعلى الجملة الثانية يعطى ثلاث جمال. هذا قول لأهل العلم، وقول ثان: إنه يعطى بدون تحديد للجنس لأن الاسم يتناول الجميع.

 

المسألة الحادية عشرة

تاء التأنيث في بعض أسماء الأجناس تكون للذكرة والأنثى، في مثل “بقرة” وأحيانًا تختص بالأنثى، إذا كانت مضافة للجنس، في مثل “كلبة”

19-                إذا قال: بعتك بقرة أنت تختارها بدينار. أو قال: بعتك كلبة تختارها انت بدينار

ففي الجملة الأولى يجوز للمشتري أن يختار ذكرا أو أنثى من البقر، وفي الجملة الثانية لزمه اختيار كلبة أنثى.

 

المسألة الثانية عشرة

كلمة “إي” ومعناها نعم، اشترط بعض أهل اللغة أن يأتي بعدها قسم كما في قوله تعالى ﴿قل إي وربي إنه لحق﴾، فهل إذا لم يلحقها بالقسم يعتبر مقسِمًا؟ الراجح عدم ذلك، وإنها تصح حتى ولو لم يكن معها قسم. ومن فروعها:

20-                لو قيل له: هل تسافر غدا؟ فقال: إي. فلم يسافر

الراجح أنه لم يقسم، ولا يترتب على كلامه كفارة يمين.

 

 

* * *

([1]) تهذيب الكمال وسير أعلام النُّبلاء

([2]) شعب الإيمان للبيهقي

([3]) كتاب بهجة المجالس وأنس المجالس، جزء 1، صفحة 8.

([4]) المحصول لابن العربي ص85

التسجيل في الجريدة الإلكترونية

عند التسجيل ستصلك مقالات الشيخ الجديدة, كل مقال جديد يكتبه الشيخ سيصلك على الإيميل

(Visited 142 times, 1 visits today)
تخريج الفروع فقهية على أصول نحوية
تمرير للأعلى