بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد
هذا تقرير بعنوان: التربية الإسلامية بين الثوابت والمتغيرات.
التربية:
قال الله تعالى: ﴿وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا﴾ ([1])
أصل الكلمة تدل على النماء، كما قال ابن منظور: «رَبا الشيءُ يَرْبُو رُبُوّاً ورِباءً: زَادَ وَنَمَا. وأَرْبَيْتُه: نَمَّيته» ثم قال: «الأَصمعي: رَبَوْتُ فِي بَني فُلَانٍ أَرْبُو نَشَأْتُ فيهِم، ورَبَّيْتُ فُلَانًا أُرَبِّيه تَرْبِيَةً وتَرَبَّيْتُه ورَبَبْتُه ورَبَّبْته بِمَعْنًى وَاحِدٍ»([2])
قال ابن الخطيب الرازي: «وَالْمُرَبِّي هُوَ الْقَائِمُ بِإِبْقَاءِ الشَّيْءِ وَإِصْلَاحِ حَالِهِ حَالَ بَقَائِهِ» ([3])
فالتربية هي عملية الإشراف على تنشئة الشخص من خلال تعليمه وإرشاده.
التربية الإسلامية
التربية الإسلامية نظام تربوي تضبطه تعاليم الدين الإسلامي، في مفاهيمه، ومبادئه، ومقاصده.
فهي نمط علمي له ركائز ووسائل مترابطة ضمن إطار فكري مستند إلى المبادئ والقيم التي أتي بها الإسلام، في القرآن الكريم والسنة الشريفة، لصبغ الإنسان بدنيًا وعقليًا وروحيًا بصبغة مستقيمة مستوية تتفق مع دين الله، والفطرة السليمة.
وقد نجد قيام هذا العلم ومبدأه كان في عصر النبوة، وتحديدًا تربية رسول الله ﷺ لأصحابه، وهي غاية من غايات رسالته، فقد قال الله تعالى: ﴿ هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾ ([4]) فالتزكية هي التربية. ولو سبرنا سيرة النبي ﷺ لوجدنا فيها أصول التربية الإسلامية، فلوجدنا أمثلة يطول ذكرها عن التربية بالقدوة، والتربية بالقصص، والتربية بالموعظة، والتربية بالعبادة، والتربية بالعقوبة…الخ.
تطور نظام التربية
لا شك أن النظم التربوية وغيرها لابد لها من مواكبة متغيرات الحياة، وإلا باءت بالفشل، وحل غيرها محلها.
ويمكن أن نقسم الأطوار التي مرت بها الحياة الإسلامية إلى ثلاثة مراحل من التطور عبر العصور، شهدت عددا من الطفرات المهمة، سواء من حيث الأسلوب أو المحتوى.
المرحلة الأولى: في القرون المتقدمة كانت البيئة المحيطة معينة بشكل كبير على استكمال العملية التربوية، وكان المجتمع محافظًا في الجملة، كما أن التربية خارج المنزل كانت متمركزة في المسجد والكتاب وحِلق العلم. إضافة إلى ما يراه الشخص من مكانة للعلماء، وما يحظون به من تقدير، ورفعة في المجتمع، وبالمقابل يرون الزاني الذي يرجم، والسارق يقطع، وكل ذلك كان يتكامل مع المنزل والمسجد في خلق بيئة تربوية مثمرة.
ولا يخلو الأمر من صعوبات، ومنكدات، فقد واجه المجتمع في تلك الآونة نزاعات سياسية، وتأسيس فرق وطوائف بدعية، فتصدى لها أهل العلم بوضع قواعد ضابطة لهذه المسائل استقوها من القرآن والسنة. ومن أمثلة ذلك:
أولًا: قول الله تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ ﴾
فاستقى منها العلماء منهج اتباع السنة والحرص على الجماعة، ونبذ الفُرقة، وصد الداعين إلى الفِرَق المحدثة والجماعات.
ثانيًا: عن أهْبَانَ بْنِ صَيْفِيٍّ رضي الله عنه قال: «أَوْصَانِي خَلِيلِي ﷺ أَنَّهُ سَيَكُونُ فِتْنَةٌ وَفُرْقَةٌ وَاخْتِلَافٌ، فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ فَاكْسِرْ سَيْفَكَ، وَاقْعُدْ فِي بَيْتِكَ، وَاتَّخِذْ سَيْفًا مِنْ خَشَبٍ» ([5])
فهذا الحديث علمنا البعد عن الفتن ومواضعها، وترك كل ما يربط بها، وعدم الخوض فيها.
المرحلة الثانية: وهي الحقبة الوسطى في القرن الخامس الهجري وما بعده، ولم تكن في ذلك العصر متغيرات زائدة على ما كان في المرحلة الأولى
لكن هذه المرحلة شهدت تطورًا ظاهرًا في المجال التربوي حين ظهرت المدارس النظامية على يد «نظام الملك» ([6]) في بغداد وغيرها من المدن، كالموصل، والبصرة وبلخ وأصفهان، التي أضافت قيمة جديدة لمسألة التربية، وحملت على كاهلها مسؤولية كبيرة في هذا الصدد.
المرحلة الثالثة: بدأت مع الاحتلال الغربي لبلادنا، وصولا إلى عصر العولمة. وقد شهدت هذه المرحلة تأثرًا كبيرًا بالثقافة الغربية، مما فيها من انحلال أخلاقي، وفساد ديني، وتفلت من القيم. ثم مع وجود عناصر مساهمة في نشر الفكر، سواء من خلال الصالونات الحوارية، ثم المجلات، ثم التلفزيون، ثم الانترنت؛ باتت هذه الوسائل من أهم ما يوجه الناس، بتوجيهات صالحة أو فاسدة.
ومن مظاهر هذه الحقبة:
دخول أفكار بناءة في المجالات التقنية، والعملية، إلا أن الباب لا يزال مفتوحًا لدخول ثقافات دخيلة في باب الاعتقاد والدين، كذلك الشهوات والإباحية.
تأثر سلوك المسلم بسلوك المشهور الغربي ونمط حياته غير المنضبط بالضوابط الدينية والاجتماعية المسلوكة عندنا.
الشعور بالنقص بالمقارنة مع الدول الثرية، مما يؤدي إلى شدة التأثر بهم، مع ازدراء المجتمع الذي نعيش فيه، ونزع الثقة بكل ما هو محلي.
تقلص الإقبال على العلم الشرعي تبعا للمجتمع الغربي الغارق بالمادية.
تضاؤل دور الأسرة التربوي، إذ أن الشخص لم يعد يعيش داخل الأسرة، بل هو معهم بجسده، وفي عالم آخر مع جهازه النقال.
وقد حاول التربويون التناغم معها، ودعمها لبث ثقافة تربوية صالحة بمواجهة الثقافات الدخيلة الفاسدة، فأنشئت المجلات والقنوات التلفزيونية الإسلامية، وكذلك قنوات اليوتيوب التي تبث العلم النافع، والدعوة إلى الفضيلة، ثم تطور الأمر إلى تخصيص قنوات وبرامج للرد على الشبهات، والدفاع ضد من ينشر الباطل.
التعامل مع المتغيرات
لا شك أن الشريعة الغراء قابلة للتعامل مع المتغيرات على مر العصور، فلم تكن هناك مصادمة مع تطورات الحياة في المجالات الطبية، والصناعية، ووسائل النقل والمراسلة، فضلا عن العمل المؤسسي، إلا أنه يضع الضوابط لهذه العمليات والأدوات، فلو ضربنا مثالًا في مجال النقل، فقد فتح الإسلام الباب لكل الوسائل الحديثة في النقل والشحن ، إلا أنه وضع لها ضوابط، مثل: حرمة نقل المواد المحرمة «كالخمر» كذلك فقد حدد المسؤوليات، مثل: من سيغرم في حال تلف السلعة المنقولة، وغير ذلك من الضوابط.
ففي مثالنا هذا وجدنا أن الإسلام لم يعق التطور، إلا أنه ضبطه.
وكذلك في سائر الأمور، فإن الإسلام يسمح بالاستفادة من تجارب الغرب النافعة، وشاهد هذا ما صح عن رسول الله ﷺ: « لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ أَنْهَى عَنِ الْغِيلَةِ، حَتَّى ذَكَرْتُ أَنَّ الرُّومَ وَفَارِسَ يَصْنَعُونَ ذَلِكَ، فَلَا يَضُرُّ أَوْلَادَهُمْ». ([7]) فنجد من هذا النص جواز الاستفادة منهم، على أن يكون هذا في ما ينفع لا في ما يضر.
ولهذا، فمن أهم ما يجب علينا: بعد إدراك سوء الواقع ومرارته، أن نحرص على جعل تفاعلنا وتفاعل الناس مع الواقع إيجابيًا، فلا نقف عند ذكر المخاطر والآثار، دون أن نتحدث عن برامج وخطط عملية لمواجهة المتغيرات السلبية، بل نطرح الجوانب والمداخل التي يمكن الإفادة منها وتوظيفها في تصحيح المسار، فالناس يحتاجون إلى العلاج لا إلى الحديث عن المرض.
بث روح الثقة بالنفس عند الناس، وإبراز إيجابيات المجتمع، ومزاياه، في مقابل الآثار السلبية للانحلال الموجود في الغرب.
تنمية الإرادة وتقويتها لمواجهة العوامل والمتغيرات الجديدة، ومواجهة ما يصدَّر إلينا من شهوات ومثيرات للغرائز، التي كثيرا ما يؤتى منها المرء من جهة ضعف إرادته، وقلة قدرته على ضبط النفس.
العناية بالتنشئة الإيمانية، فالإيمان له أثر آخر على صاحبه، فهو يسمو بالنفس، ويقي صاحبه من الوقوع في الرذائل، كما قال الله تعلى: ﴿إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ﴾
الارتقاء بالمربين وتطوير مهاراتهم لإدراك المعطيات الجديدة والتمكن من التعامل معها، فإن من أكبر الأخطاء التي نواجهها: استعمال الأساليب القديمة التي نشأ عليها جيل ما قبل العولمة. وذلك من خلال تقديم برامج تدريبية للمربين، سواء من الآباء والأمهات والمدرسين وحتى الدعاة. وذلك أن التربية لم يعد من الممكن أن يمارسها أي شخص بالطرق العفوية مه كل هذا الكم من التحديات المعاصرة.
إنشاء مؤسسات عامة تحتضن أبناء المجتمعات المسلمة، تؤمن لههم الاحتياجات الترفيهية والفكرية، مع الانضباط بالمفاهيم الإسلامية الصحيحة، وذلك سعين على سد الفراغ الذي يعاني منه الشباب والفتيات اليوم .
خاتمة
قال الله تعالى: ﴿كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ﴾ وقال: ﴿لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ﴾ فهذه الآيات تدعونا الى الجد اكثر بالعمل التربوي الاسلامي سعيا منا إلى بناء مجتمع تسوده الخيرية يرتقي بالنفوس الزكية نحو العيش السوي في الدنيا، والفوز في الآخرة.
***آخر التقرير***
***والحمد لله رب العالمين***
([3]) [تفسير الرازي = مفاتيح الغيب أو التفسير الكبير (1/ 161)].
([5]) رواه أحمد (27199) وابن ماجه (3960) والترمذي (2203).
([7]) [صحيح مسلم (4/ 161 ط التركية)].