محنة الحافظ عبد الغني مع الأشعرية

عَلم الحفاظ وأمير المحدثين في زمانه الحافظ عبد الغني الدين المقدسي، رحمه الله تعالى، صاحب كتاب عمدة الأحكام، وكتاب الكمال في أسماء الرِّجال، وله كتب كثيرة، ولد عام 541هـ وتوفي عام 600هـ.

كان الحافظ آمرا بالمعروف، ناهٍ عن المنكر، شديدًا في الحق، دخل مرة على السلطان الملقب بالعادل، فسمعه يريد غزو مدينة ماردين، وكان فيها مسلمين، فقال له: «أَيْشٍ هَذَا، وأَنْتَ بَعْدُ تُرِيْدُ قِتَالَ المُسْلِمِيْنَ، مَا تَشْكُرُ اللّهَ فِيْمَا أَعْطَاكَ إِمَامًا؟». [ذيل طبقات الحنابلة (3/ 17 ت العثيمين)]

https://www.youtube.com/watch?v=Tl6ewzxC7ow

وفي حكم الأفضل ابن صلاح الدين الأيوبي وضعوا آلات الموسيقى مقابل باب الجامع الأموي، فلمّا رآها الحافظ كسَّر كثيرًا منها، «فَجَاءَ إِلَيْهِ رَسُوْلٌ مِنَ القَاضِي يَأْمُرُهُ بالمَشْيِ إِلَيْهِ، يَقُوْلُ حَتَّى يُنَاظِرَهُ فِي الدِّفِّ وَالشَّبَّابَةِ، فَقَالَ الحَافُظُ: ذلِكَ عِنْدِي حَرَامٌ، وَقَالَ: أَنَا لَا أَمْشِي إِلَيْهِ، إِنْ كَانَ لَهُ حَاجَةٌ فَيَجِيْءُ هُوَ، ثُمَّ قَرَأَ الحَدِيْثَ، فَعَادَ الرَّسُوْلُ فَقَالَ: قَدْ قَالَ: لَابُدَّ مِنَ المَشْيِ إِلَيْهِ، أَنْتَ قَدْ بَطَّلْتَ هَذِهِ الأشْيَاءَ عَلَى السُّلْطَانِ، فَقَالَ الحَافِظُ: ضَرَبَ اللّهُ رَقَبَتَهُ، وَرَقَبَةَ السُّلْطَانِ، فَمَضَى الرُّسُوْلُ، فَمَا جَاءَ أَحَدٌ بَعْدَ ذلِكَ». [ذيل طبقات الحنابلة (3/ 17)]

قال ابن قدامة عن الحافظ عبد الغني: «كَانَ جَامِعًا لِلْعِلْمِ وَالعَمَلِ، وَكَانَ رَفِيْقِي فِي الصِّبَا، وَفِي طَلَبِ العِلْمِ، وَمَا كُنَّا نَسْتَبِقُ إِلَى خَيْرٍ إلَّا سَبَقَنِي إِلَيْهِ إلَّا القَلِيْلَ، وَكَمَّلَ اللّهُ فَضِيْلَتَهُ بِابْتِلَائِهِ بِأَذَى أَهْلِ البِدْعَةِ، وَعَدَاوَاتِهِمْ إِيَّاهُ، وَقِيَامِهِمْ عَلَيْهِ». [ذيل طبقات الحنابلة (3/ 13)]

 

أصل المشكلة

كان رحمه الله تعالى على عقيدة المسلمين، منتصرًا لها، ناقضًا لعقيدة الجهمية والأشعرية، ومكفِّرًا لهم، فقد قال: «ونعتقد ‌أن ‌الحروف ‌المكتوبة ‌والأصوات المسموعة عين كلام الله عز وجل، لا حكاية ولا عبارة» قلت: والأشعرية يعتقدون أن هذه الكلمات التي في المصحف عبارة عن كلام الله، وليست كلامه على الحقيقة، ومعنى العِبارة، هي كوصفك للشجرة، فكلماتك ليست هي الشجرة بل عبارة عنها، فهم يعتقدون أن القرآن لم يقله الله على الحقيقة، وهذا مخالف لعقيدة المسلمين، فلمّا بيَّن عقيدة المسلمين قال: «فمن لم يقل إن هذه الأحرف عين كلام الله عز وجل فقد مرق من الدين، وخرج عن جملة المسلمين» [الاقتصاد في الاعتقاد (ص140)]

كما إن الحافظ بيَّن عقيدة المسلمين، وذكر الآيات ثم قال: «فهذه سبعة مواضع أخبر فيها سبحانه أنه على العرش». [عقيدة الحافظ  عبد الغني المقدسي (ص41)]

وأما الأشعرية فيقولون: الله ليس في مكان، بل يقولون: لا يجوز أن تقول: أين الله؟.

فيقول الحافظ المقدسي: «ومن أجهل جهلاً، وأسخف عقلاً، وأضل سبيلاً ممن يقول إنه لا يجوز أن يقال: أين الله، بعد تصريح صاحب الشريعة بقوله [أين الله]». [الاقتصاد في الاعتقاد (ص89)]

ومن هنا تعرف التباين بين عقيدته وعقيدة الإسلامية، وعقيدة الأشعرية الفلسفية، وأنَّه شديد عليهم كما يستحقُّون، فحسدوه وحقدوا عليه.

محنته

مر رحمه الله بأكثر من محنة

أولها:

لمَّا كان في أصبهان تتبع كتاب معرفةِ الصحابة لأبي نعيم، وانتقد فيه 290 موضعًا ، فلمَّا سمع بذلك الأشعري صدر الدين الخُجَندي، -وكان رجلًا مقربًا من السلاطين- حاول الفتك به، فأبو نعيم كان معطَّمًا عندهم لما عنده من التَّصَوُّف، فخرج الحافظ عبد الغني من أصبهان متخفِّيًا حتى أنه لعجلته في خروجه ما لبس كامل ثيابه.

المحنة الثانية:

فلمَّا قعد في الموصل، وكان هو من أهل الحديث، وأبرز شغله كان ما يتعلَّق بالحديث والرواة، فكان عنده كتاب اسمه “الضُّعَفاء” للعُقَيلي، وهذا الكتاب تكلَّم عن ألفي رجل من الضعفاء في الحديث، ومن بينهم أبو حنيفة، فكان الحافظ يقرأ هذا الكتاب في الموصل، فسمعوا به، فاعتقلوه، وأرادوا قتله لأجل ما ذُكِرَا عن أبي حنيفة في هذا الكتاب، قا الحافظ: «فجاءني رجل طويل ومعه سيف، فقلت: يقتلني وأستريح، فلم يصنع شيئا، ثم أطلقوني». [سير أعلام النبلاء (21/ 459 ط الرسالة)] وكان سبب إطلاقه أن رجلا اسمه ابن البرني كان قد مزَّق الجزء الذي فيه ذكر أبي حنيفة، فلمَّا فتشوا الكتاب لم يجدوه فيه، فأطلقوه.

وفي هذه القصة عجيبتين، الأولى، أن الذهبي لمَّا ذكرها لم يذكر اسم أبي حنيفة وأن القصَّة متعلقة به، وذكر ذلك غيره كابن رجب.

والثانية: الله أعلم كم من الحقائق غُيِّبَت عنَّا بسبب هؤلاء المجرمين الأشعريَّة.

المحنة الثالثة:

ذهب الحافظ إلى دمشق، وكان عنده كرسي تحت قبة النسر في المسجد الأموي، يحدِّث ويعظ الناس، فأحبه الناس، ولهفت قلوبهم إلى درسِه، وكانوا يبكون فيه، فحسده الأشعرية، فأرادوا أن يفعلوا مثله، فصاروا يجمعون الناس ويحدِّثونهم، حتى صاروا يجبرون الناس على المجيء، فيجيؤون، وهذا ينام، وهذا مشغول، فما برد قلهم بهذا، فقرروا أن يكيدوا بالحافظ، فأتوا بعبد الرحمن بن نجم الحنبلي، وجعلوا له مجلسًا في وقت مجلس الحافظ عبد الغني، فاتَّفق معه الحافظ أن يرتِّبا الوقت، ويصير مجلس الحافظ بعده، ففشلت خطة الأشعرية بإحداث فتنة بينهما.

ثم دسُّوا رجلا مخبولًا من آل عساكر، حلس عند عبد الرحمن الحنبلي، فلمَّا انتهى المجلس قال للشيخ: أنت تكذب على المنبر، فضربه محبو الشيخ، فاستغلوا هذا، ومشوا إلى الوالي، وقالوا له إن الحنابلة يريدون الفتنة، وعقيدتهم فاسدة، طلبوا منه أن يستدعي الحافظ عبد الغني لأنه صاحب عقيدة فاسدة.

سمع بالقصة ابنُ قدامة وأبو العباس البخاري، فذهبوا إلى الحافظ، وقالوا له: نحن نناظرهم، وأنت اترك الأمر هذا، فإنَّك حادُّ الطبع، ولكن الوالي أرسل إلى عبد الغني وأتى به وحده، وناظروه، فاحتدَّ عليهم. ثم كتبوا عقيدتهم، وأمروه أن يوافق عليها، فرفض، فقالوا للوالي: «الفقهاء كلهم قد اتفقوا على شيء وهو يخالفهم». [سير أعلام النبلاء (21/ 460)]

فتناظروا «وارتفعت الأصوات، فقال له صارم الدين: كل هؤلاء على ضلال، وأنت على الحق؟! قال: نعم». [ذيل طبقات الحنابلة (3/ 33)] وهكذا يكون المؤمن، ثابتًا على دينه، لا يغره أهل الباطل، فالدين ليس ديمقراطيَّة.

وكان الأمر يتعلق بالإيمان بأن الله في جهة العلو، وأن الله يتكلم بهذا القرآن المعروف المؤلف من حروف وكلمات، وأنه يتكلم بصوت، و«أخذوا عليه مواضع، منها قوله: ولا أنزهه تنزيها ينفي حقيقة النزول، ومنها قوله: كان الله ولا مكان، وليس هو اليوم على ما كان». [ذيل طبقات الحنابلة (3/ 33)]

«وأجمع الفقهاء على الفتوى بكفره، وأنه مبتدع، لا يجوز أن يترك بين المسلمين، ولا يحل لولي الأمر أن يمكنه من المقام معهم، وسأل أن يمهل ثلاثة أيام؛ لينفصل عن البلد،». [ذيل طبقات الحنابلة (3/ 33)]
قال الذهبي: «أما قوله: “أجمعوا” فما أجمعوا، بل أفتى بذلك بعض أئمة الأشاعرة ممن كفروه، وكفرهم هو، ولم يبد من الرجل أكثر مما يقوله خلق من العلماء الحنابلة والمحدثين من أن الصفات الثابتة محمولة على الحقيقة، لا على المجاز، أعني أنها تجري على مواردها، لا يعبر عنها بعبارات أخرى، كما فعلته المعتزلة، أو المتأخرون من الأشعرية، هذا مع أن صفاته تعالى لا يماثلها شيء». [ذيل طبقات الحنابلة (3/ 36)]

وذهبوا إلى منبره فكسروه، ومنعوه من الجلوس، «وقالوا: نريد أن لا نجعل في الجامع إلا صلاة أصحاب الشافعي». [ذيل طبقات الحنابلة (3/ 31)] وكان لكل أهل مذهب مقامًا يصلون فيه، فأمَّا الحنفيَّة فحماهم الجنود، وأما الحنابلة فأراد الأشعرية منعهم من الصلاة في مقامهم، فجمع عبد الرحمن الحنبلي الناس وقال: «إن لم يخلونا نصلي باختيارهم، صلينا بغير اختيارهم». [سير أعلام النبلاء (21/ 461 ط الرسالة)] فأذن لهم القاضي خشية أن يمنعهم فيكسروا كلمته ويصير في موقف حرج، وهو كان صاحب الفتنة.

«ثم إن الحافظ ضاق صدره ومضى إلى بعلبك، فأقام بها مدة، فقال له أهلها: إن اشتهيت جئنا معك إلى دمشق نؤذي من آذاك، فقال: لا». [سير أعلام النبلاء (21/ 461 ط الرسالة)]

«سافر إلى مصر فنزل عند الطحانين وصار يقرأ الحديث». [ذيل طبقات الحنابلة (3/ 33)] وكان الأشعرية في أول الأمر يخافون من إيذائه، حيث أنه التقى بالسلطان الأفضل ابن صلاح الأيوبي، وأعجب به السلطان، وأرسل إلى مصر يوصي به.

و«جاء شاب من أهل دمشق بفتاوى من أهلها إلى والي مصر -العزيز عثمان- ومعه كتب أن الحنابلة يقولون كذا وكذا مما يشنعون به ويفترونه عليهم، وكان ذلك الوقت قد خرج نحو الإسكندرية، فقال: إذا رجعنا من هذه السفرة أخرجنا من بلادنا، من يقول بهذه المقالة. فلم يرجع إلا ميتا؛ فقد وقع من الفرس ووقع فرسه فوقه فكسر صدره». [ذيل طبقات الحنابلة (3/ 37)]

لكن ما لبثوا طويلًا حتى سيطر الملك أبو بكر ابن أيوب الملقَّب بـ”العادل” على مصر، وكان الأشعرية يتقربون منه، فـ«أفتى فقهاء» الأشعرية في «مصر بإباحة دمه». [ذيل طبقات الحنابلة (3/ 33)]

قال الحافظ ابنُ رجب: «وسمعت أن بعضهم بذل في قتل الحافظ خمسة آلاف دينار». [ذيل طبقات الحنابلة (3/ 38)]

ومن عجيب ما وقع «قال الشجاع بن أبي زكري الأمير: قال لي الملك الكامل [ناصر الدين محمد] يوما: هاهنا رجل فقيه يُقال عنه إنه كافر! وهو مُحَدِّثٌ، (يقصد الحافظ عبد الغني) فقال الشجاع: أيها الملك، العلماء نوعان، نوع يطلب الآخرة، والآخر يطلب الدنيا، وأنت هاهنا باب من أبواب الدنيا، فهل هذا الرجل جاء إليك، أو أرسل إليك يطلب منك شيئا؟ فقال: لا، قال الشجاع: أيها الملك، والله هؤلاء القوم يحسدونه». [ذيل طبقات الحنابلة – لابن رجب (3/ 38 ت العثيمين) بتصرف]

وقد أمروا الشيخ أن «يكتب اعتقاده، فكتب: أقول كذا؛ لقول الله كذا، وأقول كذا؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا، حتى فرغ من المسائل التي يخالفون فيها، فلما وقف عليها الملك الكامل، قال: أيش في هذا؟ يقول بقول الله عز وجل، وقول رسوله صلى الله عليه وسلم قال: فخلى عنه». [ذيل طبقات الحنابلة (3/ 40)]

«وكتب أهل مصر» من الأشعرية «إلى الصفي بن شكر وزير الملك الملقب بالعادل: أنه قد أفسد عقائد الناس، ويذكر التجسيم على رؤوس الأشهاد، فكتب إلى والي مصر بنفيه إلى المغرب فمات قبل وصول الكتاب». [ذيل طبقات الحنابلة (3/ 33)]

فرحمه الله ورضي عنه

التسجيل في الجريدة الإلكترونية

عند التسجيل ستصلك مقالات الشيخ الجديدة, كل مقال جديد يكتبه الشيخ سيصلك على الإيميل

(Visited 518 times, 5 visits today)
محنة الحافظ عبد الغني مع الأشعرية
تمرير للأعلى