عيد البربارة

عيد البربارة، عيد يَحتفل به النصارى في بلاد الشام، ويمتد أحيانا خارجها، وهو عيد يرتبط بذكرى القديسة بربارة التي عاشت في أوائل القرن الثالث الميلادي خلال عصر الإمبراطور دقلطيانوس. ومظاهر الاحتفال فيها تقديسات، إضافة للتنكر، بما يشبه الهلوين، لكن بدون رعب، بل يغلب عليه طابع البهجة. ويذكرهم التنكر بتنكر بربارة حين هربت من الوثنيين.

من هي القديسة بربارة؟
ولدت بربارة لعائلة وثنية في نيقوميدية وعاشت في زمن ما يسمى باضطهاد المسيحيين على يد الإمبراطور دقلطيانوس، الذي حكم بين عامي 284-305م. في هذا العصر، كانت عبادة الأصنام سائدة، وكان الإيمان بالمسيحية جريمة تُعاقب بأشد العقوبات.

كانت عائلة بربارة ثرية، وكان لها خدم، وبعضهم كان نصرانيًا، فأثناء تفكيرها بنقد الوثنية سألتهم عن دينهم، فأخبروها، ودلوها على العالِم أوريغانوس، فتعلمت منه الإيمان النصراني وآمنت به.
وللعلم أوريغانوس هذا يكفره كثير من النصارى لأنه لا يقول إن المسيح هو الله، فعند النصارى الله وجبريل والمسيح جوهر واحد بشخصيات ثلاثة، فهم واحد، لكن أوريغانوس كان يقول إن المسيح ليس مماثلا لله. وهذا لا يعني صحة إيمانه، إلا أنه أهون من غيره، وإلا فأنا أستغرب كيف يقتنع الوثني بأن يترك عبادة وثن ليعبد بشرًا يأكل الطعام، يحتاج إلى حليب الأم، وإلى ما تخرجه له الشحرة، ويضعف إذا انحرم منه.

علم أبوها بتنصرها، وغضب منها، وقيل حبسها، ثم هربت، وقيل سلمها للحاكم وهربت منه، وقالوا إنها هربت من أبيها متنكرةً وهذا ما يجعلهم يتنكرون في عيدها.

في النهاية ألقي القبض عليها، وعذبها الحاكم وجلدها، وأمر جنوده فهشَّموا ساقيها بأمشاط من حديد، وحرقوها بمشاعل موقدة، لترجع عن دينها، فلم ترجع، واستمر ذلك أيامًا على مرأى من الناس، فأمر بها الحاكم فأطاحوا برأسها بالسيف.

يقول المؤرخ المقريزي عنها: بربارة: كانت قدّيسة في زمان دقلطيانوس، فعذبها لترجع عن ديانتها وتسجد للأصنام، فثبتت على دينها وصبرت على عذاب شديد وهي بكر لم يمسها رجل، فلما يئس منها ضرب عنقها وعنق عدّة من النساء معها» (المواعظ والاعتبار 4/ 435).

لعل بربارة لم تؤمن الإيمان الذي يرضاه الله ورسوله المسيح ابن مريم عليه الصلاة والسلام، ولكن ثباتها يذكرنا بما ذكروه من حالها ذكرني بحديث رسول الله ص: فعن خَبَّابِ بْنِ الْأَرَتِّ قَالَ: شَكَوْنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهْوَ مُتَوَسِّدٌ بُرْدَةً لَهُ فِي ظِلِّ الْكَعْبَةِ، قُلْنَا لَهُ: أَلَا تَسْتَنْصِرُ لَنَا، أَلَا تَدْعُو اللَّهَ لَنَا؟! قَالَ: “كَانَ الرَّجُلُ فِيمَنْ قَبْلَكُمْ يُحْفَرُ لَهُ فِي الْأَرْضِ فَيُجْعَلُ فِيهِ، فَيُجَاءُ بِالْمِنْشَارِ فَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ فَيُشَقُّ بِاثْنَتَيْنِ، وَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ، وَيُمْشَطُ ‌بِأَمْشَاطِ ‌الْحَدِيدِ مَا دُونَ لَحْمِهِ مِنْ عَظْمٍ أَوْ عَصَبٍ، وَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ، وَاللَّهِ لَيُتِمَّنَّ هَذَا الْأمرَ حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِنْ صَنْعَاءَ إِلَى حَضْرَمَوْتَ لَا يَخَافُ إِلَّا اللَّهَ أَوِ الذِّئْبَ عَلَى غَنَمِهِ، وَلَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ”.

فإذا كان غيرنا قد عذب وثبت، فما لنا نحن لا نثبت ومعنا الحق، ومعنا كتاب الله تعالى.

الاحتفالات بعيد البربارة، يقومون إعداد القمح المسلوق (ويسمونه البربارة) وقد يعملونه حلوا أو مالحا، ويرتدون الأزياء التنكرية التي ترمز إلى الهروب من عبادة الأصنام، وطرق الأطفال أبواب الجيران ليملؤوا أكياسهم بالحلوى، ولهم أغاني خاصة.

وكما رفضت بربارة عبادة الأصنام، وجب على كل من يستحضر ذكراها أن يفعل فعلها، قال الله تعالى وهذه آيات خاطبكم الله بها: {أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى ٱللَّهِ وَيَسۡتَغۡفِرُونَهُۥۚ وَٱللَّهُ غَفُورٞ رَّحِيمٞ 74 مَّا ٱلۡمَسِيحُ ٱبۡنُ مَرۡيَمَ إِلَّا رَسُولٞ قَدۡ خَلَتۡ مِن قَبۡلِهِ ٱلرُّسُلُ وَأُمُّهُۥ صِدِّيقَةٞۖ كَانَا يَأۡكُلَانِ ٱلطَّعَامَۗ ٱنظُرۡ كَيۡفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ ٱلۡأٓيَٰتِ ثُمَّ ٱنظُرۡ أَنَّىٰ يُؤۡفَكُونَ 75 قُلۡ أَتَعۡبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ مَا لَا يَمۡلِكُ لَكُمۡ ضَرّٗا وَلَا نَفۡعٗاۚ وَٱللَّهُ هُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلۡعَلِيمُ 76 قُلۡ يَٰٓأَهۡلَ ٱلۡكِتَٰبِ لَا تَغۡلُواْ فِي دِينِكُمۡ غَيۡرَ ٱلۡحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوٓاْ أَهۡوَآءَ قَوۡمٖ قَدۡ ضَلُّواْ مِن قَبۡلُ وَأَضَلُّواْ كَثِيرٗا وَضَلُّواْ عَن سَوَآءِ ٱلسَّبِيلِ}

قصة بربارة تتقاطع مع رسائل الأنبياء جميعًا التي دعت إلى توحيد الله ورفض عبادة ما دونه، وإلى التخلي عن دين الآباء والأجداد إن خالف رسل الله.

ولهذا يخاطل الله تعالى النصارى بقوله: {يَٰٓأَهۡلَ ٱلۡكِتَٰبِ قَدۡ جَآءَكُمۡ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمۡ كَثِيرٗا مِّمَّا كُنتُمۡ تُخۡفُونَ مِنَ ٱلۡكِتَٰبِ وَيَعۡفُواْ عَن كَثِيرٖۚ قَدۡ جَآءَكُم مِّنَ ٱللَّهِ نُورٞ وَكِتَٰبٞ مُّبِينٞ 15 يَهۡدِي بِهِ ٱللَّهُ مَنِ ٱتَّبَعَ رِضۡوَٰنَهُۥ سُبُلَ ٱلسَّلَٰمِ وَيُخۡرِجُهُم مِّنَ ٱلظُّلُمَٰتِ إِلَى ٱلنُّورِ بِإِذۡنِهِۦ وَيَهۡدِيهِمۡ إِلَىٰ صِرَٰطٖ مُّسۡتَقِيمٖ 16 لَّقَدۡ كَفَرَ ٱلَّذِينَ قَالُوٓاْ إِنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلۡمَسِيحُ ٱبۡنُ مَرۡيَمَۚ قُلۡ فَمَن يَمۡلِكُ مِنَ ٱللَّهِ شَيۡـًٔا إِنۡ أَرَادَ أَن يُهۡلِكَ ٱلۡمَسِيحَ ٱبۡنَ مَرۡيَمَ وَأُمَّهُۥ وَمَن فِي ٱلۡأَرۡضِ جَمِيعٗاۗ وَلِلَّهِ مُلۡكُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَمَا بَيۡنَهُمَاۚ يَخۡلُقُ مَا يَشَآءُۚ وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٞ}

عيد البربارة يحمل رسالة صامتة ولكن عميقة لكل من يبحث عن الحقيقة: العبادة لا تكون إلا للخالق الذي لا شريك له، الذي أرسل الأنبياء مبشرين ومنذرين، وختمهم برسالة الإسلام التي أكدت التوحيد. يقول الله في القرآن الكريم: “إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ” (آل عمران: 19).

فلنجعل من قصة بربارة عبرة للتأمل، ولنطرح على أنفسنا سؤالًا صادقًا: هل عبادتنا اليوم خالصة لله وحده؟ كما اختارت بربارة الثبات على الحق، يمكن أن يكون الطريق للتوحيد دعوة للسعادة الأبدية في الدنيا والآخرة.

 

 

التسجيل في الجريدة الإلكترونية

عند التسجيل ستصلك مقالات الشيخ الجديدة, كل مقال جديد يكتبه الشيخ سيصلك على الإيميل

(Visited 17 times, 1 visits today)
عيد البربارة
تمرير للأعلى