كفر اليهود والنصارى ليست مسألة خلافيّة، أبدًا، ولا يصح فيها الخلاف، ومن لا يكفرهم فهو زنديق بإجماع المسلمين قاطبةً.
وقد جمعتُ في كتابي “الرسالة في التكفير وضوابطه” وهو كتاب في توضيح مسائل الكفر وضوابط التكفير (لم يُطبع بعد)، جمعت فيه الكثير من الأدلّة من القرآن الكريم والسنّة على كفرهم، ولو أن كفرهم لا يحتاج لدليل، فمجرد كونهم لم يسلموا فهم كفّار. فهل يحتاج الرجل التركي دليلًا على أنه ليس بصيني! أو يحتاج الأزرق دليلًا على أنه ليس بأحمر!
فمن الطبيعي أن من لا يؤمن بالشيء فهو كافر به، فأنا أكفر بالشيوعيّة وبالليبرالية، فهل يُعقل أن يأتي من يقول لي: “أنت شيوعي وليبرالي حتى تأتني بوثائق تثبت بأنك لست ممن ينتمي لهذا الفكر” !. فالأمر لا يحتاج إلى دليل.
كذلك فإن أي مسلم يعلم أن أركان الإيمان ستّة:
أولها الإيمان بالله، وهؤلاء منهم من قال عن الله أنه ثلاثة، ومنهم من قال أنه يَلِد، ومنهم من قال أن يده مغلولة، ويقولون في كتبهم المقدسة أنه يُصارع ويندم، ويقول النصارى أنه قتل ابنه بذنب لم يرتكبه، ومغالطات كثيرة تصف الله بصفات يكفي الواحد منها لكفر قائله بالله الذي هو الله.
وثانيها الإيمان بالملائكة، وهؤلاء منهم من كان عدوًّا لجبريل، ومنهم من جعل جبريل ربًّا فلا يصح إيمانهم بالملائكة.
وثالثها الإيمان بالكتب، وهُم بلا شك يكفرون بالقرآن.
ورابعها الإيمان بالرسل، وهم بلا شكّ يكفرون بمحمد ﷺ.
وخامسها وسادسها الإيمان باليوم الآخر والقدر، وأقوالهم في ذلك متضاربة.
فأيُّ إيمان هذا الذي قد يُنسب لهم؟
ومع ذلك فهذا بعض ما ذكرته من الأدلّة على كفرهم من القرآن:
1- قال تعالى: ﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ [البقرة:91]
الشاهد قوله: {وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ} أي بما بعده وهو جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، وقوله {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} دل على كفرهم.
2- قال تعالى: ﴿ قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ﴾ [آل عمران:98]
فهذه صريحة بكفر أهل الكتاب.
3- قال تعالى: {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران:85]
فمن لم يدن لله بالإسلام فليس على مقبول عند الله.
4- قال تعالى: {وَقَالُواْ كُونُواْ هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُواْ قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [البقرة : 135]
فهذا دليل على أنّهم ليسوا على ملّة الإسلام.
5- قال تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَن يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللّهِ فَإِنَّ اللّهِ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [آل عمران :19] .
وجه الدلالة أنهم اختلفوا في الإيمان بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، فمن آمن جاءت نصوص بمدحه، ومن كفر قال الله تعالى: {وَمَن يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللّهِ فَإِنَّ اللّهِ سَرِيعُ الْحِسَابِ}
6- قوله تعالى: { وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم بَعْدَ الَّذِي جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ} [البقرة:120]
فدل على أن من اتّبع ملتهم هلك، ولو كانوا مؤمنين لجاز اتباع ما هم عليه.
7- قال تعالى: ﴿وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران:80]
فالنصارى يعتبرون جبريل عليه السلام وعيسى عليه الصلاة السلام إلهين مع الله، وطائفة من اليهود قالت عزيرُ ابن الله -تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً- وقد سمّى الله ذلك كفراً.
8- قال تعالى: ﴿ يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا﴾ [النساء:42]
الشاهد قوله: {الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ} فوصف من عصى الرسول بعدم اتّباع دينه بأنه قد كَفَر.
9- قال تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا ﴾ [النساء:150]
وهذه فيها أكثر من وجه في الدلالة، أولها أنه قرن الكفر بالله عز وجل بالكفر بالرسل، ومحمد صلى الله عليه وسلم من الرّسل، فمن كفر به فهو كافر.
الوجه الثاني: {وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ} دل على أن مَن ادّعى الإيمان بالله ولم يؤمن بأحد من رسله فهو كافر.
الوجه الثالث: {وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ} دل على أن من لم يؤمن بنبي من الأنبياء فهو كافر.
10- قال تعالى: ﴿ فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا﴾ [النساء:155]
وهذه الآية نزلت في اليهود، وقد وصفهم الله فيها بالكفر.
11- قال تعالى: ﴿ يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْرًا لَكُمْ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا ﴾ [النساء:170]
الشاهد {قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْرًا لَكُمْ وَإِنْ تَكْفُرُوا} فأخبر الله تعالى أن من لا يومن بالرسول محمد صلى الله عليه وسلم كافر، دون مدخل للشك بذلك.
12- قال تعالى: ﴿ لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ .. ﴾ [المائدة:17]
وهذه إحى الطوائف الكبرى عند النصارى وهم يقولون أن الله هو المسيح ابن مريم، فجاءت الآية بتكفيرهم، وفيها دلالة على تكفير من قال بالثالوث لأنهم اعتبرو المسيح ابن مريم عليه السلام جزء من الله -سبحانه عمّا يقولون-
13- قال تعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ﴾ [المائدة:65]
و (لو) هو حرف امتناع لامتناع، فدلت الآية أنهم كفار ولم يؤمنوا ولن يكفر الله سيئاتهم ولن يدخلوا الجنّة.
14- قال تعالى: ﴿ قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ﴾ [المائدة:68]
هنا أيضا وصف أهل الكتاب بالكافرين {فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} وهذا بكفرهم بإقامة ما جاء في كتبهم في الأمر بالإيمان بمحمد ﷺ.
15- ﴿لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ [المائدة:73]
وهذه أكبر فرق النصارى، وهم الذين يقولون أن الله هو ثالث ثلاثة (الأب والإبن والروح)، وقد كفّرهم الله عز وجل.
16- قال تعالى: ﴿ لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ ﴾ [المائدة:82]
فوصف اليهود والمشركين (قريش) بأنهم أشد عداوة للمؤمنين، فدل على أنهم ليسوا من المؤمنين، ثم النصارى وصفهم بأنهم أقرب مودّة للمؤمنين، فهم أيضا ليسوا من المؤمنين.
17- قال تعالى: {وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا} [29:الكهف]
قال {وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ} أي يا محمد أبلغهم بالحق الذي أرسلك الله به {فمن شاء فليؤمن} بهذا الحق، أما الذي لم يؤمن فوصفه الله بالكفر وتوعّده: {وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا}.
18- قال تعالى: {ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ} [12:غافر]
فهذه الآية تقول أنهم يكفرون بالتوحيد، ويؤمِنون بالشرك والعياذ بالله
19- قال تعالى: {وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمْ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمْ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمْ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمْ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ} [المائدة:12].
والشاهد أنّه اشترط عليهم الإيمان برسله ليغفر لهم ويدخلهم الجنة، وهم لم يؤمنوا بمحمّد صلى الله عليه وسلم بل كفروا به فدخلوا في قوله تعالى: {فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ}
20- قال تعالى: {قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } البقرة:38-39
والشّاهد أنهم لم ستّبعوا هدى الله الذي أنزله على محمّد صلى الله عليه وسلم، ولا أمر الله لهم في كتبهم بالإيمان به، فحق عليهم وصف الكفر وقوله تعالى {وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}
21- قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ} البينة:6
الشاهد: أنه ذكر ذلك بعد قوله {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ * رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً} فمن لم يؤمن به فأولئك كافروان، وهم شر البريّة.
فإن قيل أن {مِن} هنا للتبعيض (بمعنى: القسم الذين كفروا من جملة أهل الكتاب)، قلنا هذا خطأ، وإنما هي لبيان الجنس (كقول القائل: صنعت ثوبًا من قماش. فكانت “من” مبينة لجنس الثوب) ودليل أنها لبيان الجنس: أن الله تعالى عطف المشركين على أهل الكتاب فقال {الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ} فحرف “من” عمل نفس العمل في (أهل الكتاب) و(المشركين) ومن المعلوم أن المشركين كلهم كفّار، فلا يمكن أن يوصف جزء منهم فقط بالكفر، فكذلك أهل الكتاب.
22- قال تعالى: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ} الأعراف:157
ففسر الذين هم بآياته يؤمنون بأنهم هم {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ} فمن لم يتبعه منهم فلا يوصف بالإيمان
23- قال تعالى: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمْ الأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلا قَلِيلا * وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا * وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ..} النساء:155-157
فكرر الله تعالى ذكر كفرهم أكثر من مرة.
24- قال تعالى: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} الأنعام:92
فجعل الإيمان بالقرآن الكريم بعد نزوله، والحفاظ على الصلاة شرط لمن آمن بالآخرة، وهذا تأكيد على نفي الإيمان عمّن سواهم.
ومن السنّة:
1- قال رسول الله: (وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَا يَسْمَعُ بِي أَحَدٌ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ يَهُودِيٌّ، وَلَا نَصْرَانِيٌّ، ثُمَّ يَمُوتُ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ، إِلَّا كَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ) [رواه مسلم 153]
2- عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: كَانَ غُلاَمٌ يَهُودِيٌّ يَخْدُمُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَمَرِضَ، فَأَتَاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعُودُهُ، فَقَعَدَ عِنْدَ رَأْسِهِ، فَقَالَ لَهُ: (أَسْلِمْ)، فَنَظَرَ إِلَى أَبِيهِ وَهُوَ عِنْدَهُ فَقَالَ لَهُ: أَطِعْ أَبَا القَاسِمِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَسْلَمَ، فَخَرَجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَقُولُ: (الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْقَذَهُ مِنَ النَّارِ) [رواه البخاري 1356]
وهذا صريح بأنه لم يكن مسلمًا قبل أن يشهد أن محمدًا رسول الله، وأنه كان من أهل النار.
3- عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (الْمَغْضُوبُ عَلَيْهِمُ: الْيَهُودُ، وَالضَّالُّونَ: النَّصَارَى) رواه أحمد 19381 وابن حبان 6246 والطبري في التفسير 193 و207.
ومن الإجماع:
لا خلاف بين المسلمين في كفرهم ولا في كفر من قال بأن اليهود والنصارى ليسوا بكافرين.
1- قال الإمام الملطي (ت377هـ) في الشاك في كفر الكافر : “وَجَمِيع أهل الْقبْلَة لَا اخْتِلَاف بَينهم أَن من شكّ فِي كَافِر فَهُوَ كَافِر لِأَن الشاك فِي الْكفْر لَا إِيمَان لَهُ لِأَنَّهُ لَا يعرف كفرا من إِيمَان” [التنبيه والرد على أهل الأهواء والبدع ص:40].
2- قال ابن حزم (ت456): “وَاتَّفَقُوا على تَسْمِيَة الْيَهُود وَالنَّصَارَى كفَّارًا.” [مراتب الإجماع ص119] ، وقال في [ص10]: “وَمن شَرط الإجماع الصَّحِيح أَن يُكَفَّر من خَالفه بِلَا اخْتِلَاف بَين أحد من الْمُسلمين”.
3- قال القاضي عياض (ت544هـ): “وقَع الإجْماع عَلَى تَكْفِير كُلّ مِن دافع نص الكتاب أو خص حديثا مجمعا عَلَى نَقْلِه مَقْطُوعًا بِه مُجمَعًا عَلَى حَمْلِه عَلَى ظَاهِرِه كَتَكْفِير الخَوَارِج بإبْطال الرّجْم ولهذا نُكَفّر من لم يُكَفّر من دَان بِغَيْر ملّة الْمُسْلِمِين مِن المِلَل أَو وَقَف فِيهِم أَو شَكّ أَو صَحَّح مَذْهَبَهُم وإن أظْهَر مَع ذَلِك الْإِسْلَام وَاعْتَقَدَه وَاعْتَقَد إبْطَال كُلّ مذْهَب سِواه فَهُو كَافِر بإظْهَارِه مَا أظْهَر من خِلَاف ذَلِك ” [الشفا ج2 ص610]
4- قال يحيى بن أبي الخير (ت558): “ذهب ثمامة بن أشرس النميري شيخ المعتزلة بعد إذ زعم أنه يجوز أن يكون كثير من اليهود والنصارى والمجوس والصابئين في الجنة، ومن كان هذا مقتضى قوله فلا شك في كفره لمخالفته نص الكتاب والسنة وإجماع الأمة” [الانتصار في الرد على المعتزلة ج3 ص814].
5- قال النووي (ت676هـ): “وَأَنَّ مَنْ دَافَعَ نَصَّ الْكِتَابِ أَوِ السُّنَّةِ الْمَقْطُوعِ بِهَا الْمَحْمُولِ عَلَى ظَاهِرِهِ، فَهُوَ كَافِرٌ بِالْإِجْمَاعِ، وَأَنَّ مَنْ لَمْ يُكَفِّرْ مَنْ دَانَ بِغَيْرِ الْإِسْلَامِ كَالنَّصَارَى، أَوْ شَكَّ فِي تَكْفِيرِهِمْ، أَوْ صَحَّحَ مَذْهَبَهُمْ، فَهُوَ كَافِرٌ، وَإِنْ أَظْهَرَ مَعَ ذَلِكَ الْإِسْلَامَ وَاعْتَقَدَهُ” [روضة الطالبين ج10 ص70]
6- قال القرطبي (ت671هـ): “مَن وحَّد الله تعالى، ولم يؤمن بالنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم ينفعه إيمانه بالله تعالى، ولا توحيده، وكان من الكافرين، بالإجماع القطعي” [المفهم لما أشكل من تلخيص مسلم ج1 ص291]
7- قال تقي الدين ابن تيمية (ت728هـ): “وَمَنْ لَمْ يُحَرِّمْ التَّدَيُّنَ – بَعْدَ مَبْعَثِهِ صلى الله عليه وسلم- بِدِينِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، بَلْ مَنْ لَمْ يُكَفِّرْهُمْ وَيُبْغِضْهُمْ فَلَيْسَ بِمُسْلِمِ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ” [مجموع الفتاوى ج27 ص464]
8- ونقل الزركشي (ت794): “الْإِجْمَاعِ عَلَى كُفْرِ مَنْ لَمْ يُكَفِّرْ أَحَدًا مِنْ النَّصَارَى وَالْيَهُودِ، وَكُلُّ مَنْ فَارَقَ دِينَ الْمُسْلِمِينَ وَوَقَفَ فِي تَكْفِيرِهِمْ أَوْ شَكَّ، لِقِيَامِ النَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ عَلَى كُفْرِهِمْ. فَمَنْ وَقَفَ فِيهِ فَقَدْ كَذَّبَ النَّصَّ” [البحر المحيط ج8 ص279].
9- ابن حجر الهيتمي (ت974): نقل الإجماع عن القاضي عياض في [الإعلام بقواطع الإسلام ص164].
شبهات الزنادقة الذين قالوا بإيمان اليهود والنصارى
جميع ما يستدل به الزّنادقة محاولين اقناع غيرهم بإيمان اليهود والنصارى تتمحور حول شبهتين:
الشبهة الأولى: استدلالهم بالآيات التي تدل على هدى الأنبياء وصحّة ما جاؤوا به،
كقوله تعالى: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهِ}، وقوله تبارك وتعالى: {وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ}، وأن الأنبياء دينهم الإسلام.
قلنا: اليهود والنصارى فارقوا دين الأنبياء وحرّفوا كتبهم فلا يُستدل بذلك. فقد قال تعالى: {أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ * وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} الأنعام:91-92.
الشبهة الثانية:
استدلالهم بالآيات التي فيها مدح ووعد لمن آمن من أهل الكتاب، وهذه الآيات نوعين:
النوع الأول: آيات تتكلم عن أهل الكتاب الذين آمنوا بأنبيائهم ودانوا بدينهم، والذين بقوا على أصل دينهم قبل بعثة محمد صلى الله عليه وسلم،
كقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [المائدة: 69]
والدليل على أن المقصود هنا: من بقي على دينه قبل البعثة؛ قول الله تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} [الأنعام:92] فلا يُقال عمّن لم يؤمن بالقرآن الكريم أنه يؤمن بالآخرة، لا يقال هذا إلا قبل نزول القرآن. وقول رسول الله ﷺ: (وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَا يَسْمَعُ بِي أَحَدٌ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ يَهُودِيٌّ، وَلَا نَصْرَانِيٌّ، ثُمَّ يَمُوتُ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ، إِلَّا كَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ) [رواه مسلم 153]
ومن الآيات التي مدحتهم: قوله تعالى: {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا * وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا } [النساء:123-124]
وهذه الآية من مقاصدها أن تنقض قول الذي ظن انه ينجو في الآخرة بمجرد انتسابه للدين دون إيمان (قول وعمل) فردّ الله تعالى عليهم بأن الذي يعمل السوء يُعاقب عليه، ومن يعمل الخير يؤجر عليه، واشترط لحصول الأجر: الإيمان. فقال {وَهُوَ مُؤْمِنٌ} فكانت أيضا في أهل الكتاب الذين انتسبوا إلى أنبيائهم قبل البعثة، لأنهم بعد البعثة لا ينطبق عليهم وصف الإيمان بسبب كفرهم برسول الله، وبكتاب الله فقد قال الله تعالى:{قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ} [آل عمران:98]، فهم انطبق عليهم وصف الكفر لكفرهم بالقرآن، فانتفى شرط الأجر على الصالحات، وهو الإيمان. وقال تعالى: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ} [البقرة:285]، وهم كقروا بمحمد ﷺ، فانتفى عنهم شرط الأجر على الصالحات وهو الإيمان. وقال تعالى: {وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ}[المائدة:12]، والذين لم يؤمنوا منهم بعد البعثة، لم يقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة ويؤمنون بالرسل ويعزروهم، وإنما كفروا وضلوا السبيل. والمنافقون يعدونهم بالجنة على كفرهم كيلا يدخلوا الإسلام!
النوع الثاني: آيات تمدح النصارى،
كقوله تعالى: {لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ * يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُوْلَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ} [آل عمران]
وهذه في أهل الكتاب الذين بقوا على توحيدهم وإيمانهم، وهؤلاء حين سمعوا بمحمد صلى الله عليه وسلم أمنوا به بدليل قوله تعالى: {وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ} وليس هناك من المعروف أفضل من الإيمان برسول الله، {وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ} وليس هناك من منكر أعظم من الكفر برسول الله، {وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ} وليس هناك من الخير خير من الإيمان برسول الله صلى الله عليه وسلم، وبدليل قوله تعالى: {جِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ * وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ * وَمَا لَنَا لَا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ} فهؤلاء آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم لما سمعوا آيات الله وقالوا {رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ}.
وأما اليهود فقال تعالى: {وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ}
وهذه فيمن آمن برسول الله صلى الله عليه وسلم بدليل قوله تعالى: {لَكِنْ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أُوْلَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء: 162].
فالآيات في مدح من آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم مِن أهل الكتاب. وقال تعالى {إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَن يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللّهِ فَإِنَّ اللّهِ سَرِيعُ الْحِسَابِ}. فانظر كيف افترى المنافقون الذين استشهدوا بآية وتركوا ما بعدها من الآيات التيي تتمم معناها، وجعلوا القرآن عضين، وغيروا معناه!
شبهة ثالثة تضاف لهم:
قولهم أن الله أحل الزواج من نصرانية أو يهودية مع أنه قال: {وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ}
وهذا قول مردود، فلوا قرأوا الآية التي أباحت زواج المشركة لوجدوا أن الله قال: {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ..} الآية. فقوله تعالى {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ} دل على أن التالي ذِكره كان محرّمًا، إذن فهذه الآية خصّصت عموم الآية السابقة، وأباحت الله فيها جزءً مما حرّمه في السابقة، فصار المعنى {وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} ويستثنى من ذلك الكتابيّة المُحصنة (العفيفة).
فإن قيل أن الطيبات لم تكن محرّمة؟ قلت: الله أخبر سابقًا بحل الطّيبات بقوله {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ}، لكن هنا أحل الطيبات معطوفة على طعام الذين أوتوا الكتاب، كما لو قلت لك خذ هذه الناقة، وقلت لك في اليوم التالي اليوم سأعطيك الناقة وابنها. فالناقة واحدة لكن أعيذ ذِكرها للامتنان ولعطف الزائد عليها.
وإن قيل كيف يُحل لهم طعامنا وهم كافرون؟ قلت: قوله تعالى {وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ} هو إباحة لنا أن نطعمهم من طعامنا
وإن قيل: كيف يكون اليوم أحل المحصنات من المؤمنات وهن حلال من قبل؟ قلت: هو كما قلت قلت في الطيبات، وقد يكون لذلك وجه ثان وهو أنه هنا أحلّ زواجهنّ بقيد {إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ} فهنا قيد الإباحة بهذا القيد.
والله أعلم
والحمد لله رب العالمين