بسم الله الرحمن الرحيم
[موضوع الرسالة]
هذه الرسالة في السياسة الشرعية، بناها المؤلف على آيتين من كتاب الله، وهما قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً﴾ [النساء:58]
نزلت هذه الآية في ولاةِ الأمور؛ عليهم أن يؤدوا الأمانات إلى أهلها، وإذا حكموا بين الناس أن يحكموا بالعدل، فهذان جماع السياسة العادلة، والولاية الصالحة.
وقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً﴾ [النساء:59]
نزلت في الرعيَّة؛ عليهم أن يطيعوا أولي الأمر -الفاعلين لذلك- في قَسمِهم وحُكمهم ومغازيهم وغيرِ ذلك، إلا أن يأمروا بمعصية، فلا طاعة لِمَخلوقٍ في معصية الخالق، فإن تنازعوا في شيء ردوه إلى كتاب الله وسنة رسوله ﷺ.
وإن لم تفعل ولاة الأمر ذلك؛ أُطيعُوا فيما يأمرونَ بِه مِن طاعةِ اللهِ ورسوله، وأُدِّيَتْ حقوقُهم إليهم، لقوله تعالى: ﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإثْمِ وَالْعُدْوَانِ﴾ [المائدة: 2]
[باب: استعمال الأصلح]
لتحقيق أداء الأمانات لابد من أمرين
الأول: الولايات
يجب على ولي الأمر أن يولي على كل عَمَلٍ من الأعمال أصلحَ من يجده لذلك العمل، وقد قال رسول الله ﷺ عن الولاية: «إنها أمانة، وإنها يوم القيامة خزي وندامة، إلا من أخذها بحقها، وأدى الذي عليه فيها» رواه مسلم ([1])
وروى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن النبي ﷺ قال: «إذا ضيعت الأمانة، فانتظر الساعة» قيل يا رسول الله وما إضاعتها؟ قال: «إذا وسد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة» ([2])
فيجب أن يستعمل أصلح مَن يقدر عليه في الولايات الكبرى على البِلاد، ومناصب القضاة والقُوَّاد وغيرها، حتَّى أئمة المساجد، فإن عرفَ الأصلح واختار غيره لأيِّ سبب كالقرابة أو الرشوة، أو غيرها؛ فقد خان الله ورسوله والمؤمنين، ودخل فيما نهي عنه في قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾[الأنفال:27] ثم قال: ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ﴾ [الأنفال:28].
وقد أجمع المسلمون على معنى هذا. وهذا شامل حتى لوصي اليتيم، وناظر الوقف، ووكيل الرجل في ماله، فعليه أن يتصرف له بالأصلح فالأصلح، كما قال الله تعالى: ﴿وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ [الأنعام:152] ولم يقل إلا بالتي هي حسنة.
[منهجيَّة الاختيار]
[تقديم مَن طلب الوِلاية]
من طَلَب الوِلاية فإنَّ ذلك سبب في أن يٌمنَعَها، فإن في الصحيحين عن النبي ﷺ أن قوما دخلوا عليه فسألوه الولاية، فقال: «إنا لا نولي أمرنا هذا من طلبه» ([3])
وقال لعبد الرحمن بن سمرة: «يَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ سَمُرَةَ، لَا تَسْأَلِ الإِمَارَةَ، فَإِنَّكَ إِنْ أُوتِيتَهَا عَنْ مَسْأَلَةٍ وُكِلْتَ إِلَيْهَا، وَإِنْ أُوتِيتَهَا مِنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ أُعِنْتَ عَلَيْهَا ، وَإِذَا حَلَفْتَ عَلَى يَمِينٍ، فَرَأَيْتَ غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا، فَكَفِّرْ عَنْ يَمِينِكَ وَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ» أخرجاه في الصحيحين ([4])
[اختيار الأمثل فالأمثل]
على الحاكم اختيار أصلح من يُمكن، إلا أنه قد لا يكون تحت يده من هو صالح لتلك الولاية، فيختار الأمثل فالأمثل في كل منصب بحسبِه، وإذا فعل ذلك بعد الاجتهاد التام، فقد أدى الأمانة، وقام بالواجب في هذا، فإن الله يقول: ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا﴾ [التغابن: 16] وقال النبي ﷺ: «فَإِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَاجْتَنِبُوهُ، وَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ» أخرجاه في الصحيحين ([5])
[أركان الولاية]
الولاية لها ركنان: القوة والأمانة.
والقوة في كل ولاية تختلف بحسبها؛ فالقوة في إمارة الحرب ترجع إلى شجاعة القلب، وإلى الخبرة بالحروب، والقوة في الحُكمِ بين الناس، ترجع إلى العِلمِ بالعَدل الذي دل عليه الكتاب والسنة، وإلى القدرةِ على تنفيذ الأحكام.
والأمانة ترجع إلى خشية الله، وألا يشتري بآياته ثمنا قليلا، وترك خشية الناس، وهذه الخصال الثلاث التي أخذها الله على كل حكم على الناس، في قوله تعالى: ﴿فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ﴾ [المائدة: 44]
ويعرف الأصلح بمعرفة مقصود الولاية، ومعرفة السبيل لتحقيقه، والمقصود الواجب بالولايات: إصلاح دين الخلق الذي متى فاتهم خسروا خسرانا مبينا، وإصلاح ما لا يقوم الدين إلا به من أمر دنياهم، وهو نوعان: قَسم المالِ بين مستحقيه، وعقوبات المتعدين، فمن لم يعتد أصلح له دينه ودنياه.
وقد روي عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، قال: أمرنا رسول الله ﷺ، أن نضرب بهذا – يعني السيف – من عدل عن هذا – يعني المصحف- فإذا كان هذا هو المقصود، فإنه يتوسل إليه بالأقرب فالأقرب.
[ باب الأموال]
قال تعالى في الديون: ﴿فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ﴾ [البقرة: 283].
وفي هذا رد الحقوق إلى أصحابها، وإعطاء كل ذي حق حقه، وإذا كان الله قد أوجب أداء الأمانات التي قبضت بحق، ففيه تنبيه على وجوب أداء الأموال المغصوبة والمسروقة ونحوها.
وفي الباب عن ابن مسعود رضي الله عنه، قال: قال رسول الله ﷺ: (إنكم سترون بعدي، أثرة أو أمورا تنكرونها) قالوا: فما تأمرنا يا رسول الله؟ قال: (أدوا إليهم حقهم، واسألوا الله حقكم) ([6]) وليس لولاة الأموال أن يقسموها بحسب أهوائهم، كما يقسم المالك ملكه، فإنما هم أمناء ونواب ووكلاء.
وكثيرا ما يقع الظلم من الولاة والرعية: هؤلاء يأخذون ما يحل، وهؤلاء يمنعون ما يجب، والأصل في ذلك: أن كل من عليه مال يجب أداؤه.
ولا يحل للرجل أن يكون عونا على ظلم، فإن التعاون نوعان:
الأول: تعاون على البر والتقوى من الجهاد وإقامة الحدود واستيفاء الحقوق وإعطاء المستحقين فهذا مما أمر الله به ورسوله.
والثاني: تعاون على الإثم والعدوان، كالإعانة على دم معصوم أو أخذ مال معصوم أو ضرب من لا يستحق الضرب ونحو ذلك فهذا الذي حرمه لله ورسوله.
والواجب تحصيل المصالح وتكميلها وتعطيل المفاسد وتقليلها، فإذا تعارضت كان تحصيل أعظم المصلحتين بتفويت أدناهما ودفع أعظم المفسدتين مع احتمال أدناها هو المشروع.
[صرف الأموال]
وأما المصارف فالواجب: أن يبتدئ في القسمة بالأهم فالأهم من مصالح المسلمين كعطاء من يحصل للمسلمين به منفعة عامة. وجعلهم عمر رضي الله عنه أربعة أقسام:
الأول: ذوو السوابق الذين بسابقتهم حصل المال.
الثاني: من يغني عن المسلمين في جلب المنافع له كولاة الأمور والعلماء الذين يجتلبون لهم منافع الدين والدنيا.
الثالث: من يبلي بلاء حسنا في دفع الضرر عنهم كالمجاهدين في سبيل الله من الأجناد والعيون من القصاد والناصحين ونحوهم.
الرابع: ذوو الحاجات.
[حدود الله وحقوقه]
وأما قوله تعالى: ﴿وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ﴾ [النساء: 58] فإن الحكم بين الناس، يكون في الحدود والحقوق، وهما قسمان:
فالقسم الأول:
الحدود والحقوق التي ليست لقوم معينين، بل منفعتها لمطلق المسلمين، أو نوع منهم. وكلهم محتاج إليها، وتسمى حدود الله، وحقوق الله مثل: حد قطاع الطريق، والسراق، والزناة ونحوهم، ومثل: الحكم في الأمور السلطانية، والوقوف والوصايا التي ليست لمعين، فهذه من أهم أمور الولايات، ولهذا قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: (لا بد للناس من إمارة برة كانت أو فاجرة، فقيل: يا أمير المؤمنين هذه البرة قد عرفناها فما بال الفاجرة؟ فقال: يقام بها الحدود، وتأمن بها السبل، ويجاهد بها العدو، ويقسم بها الفيء)
وهذا القسم يجب على الولاة البحث عنه، وإقامته من غير دعوى أحد به، ويجب إقامته على الشريف والوضيع والقوي والضعيف ولا يحل تعطيله.
ومن ذلك عقوبة المحاربين، وقطاع الطريق الذين يعترضون الناس بالسلاح في الطرقات ونحوها؛ ليغصبوهم المال، مجاهرة من الأعراب والتركمان والأكراد والفلاحين وفسقة الجند أو مردة الحاضرة أو غيرهم، قال الله تعالى فيهم: ﴿إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَاداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ [المائدة:33]
ومن أوى محاربا أو سارقا أو قاتلا ونحوهم ممن وجب عليه حد أو حق لله تعالى أو لآدمي ومنعه ممن يستوفى منه الواجب بلا عدوان فهو شريكه في الجرم ولقد لعنه الله ورسوله وروى مسلم: (لعن الله من أحدث حدثا أو آوى محدثا) [مسلم: 1978]. وإذا ظفر بهذا الذي آوى المحدث فإنه يطلب من إحضاره أو الإعلام به فإن امتنع عوقب بالحبس والضرب مرة بعد مرة حتى يمكن من ذلك المحدث. وهذا يقع كثيرا في الرؤساء من أهل البادية والحاضرة إذا استجار بهم مستجير أو كان بينهما قرابة أو صداقة.
[حد السرقة]
وأما السارق فيجب قطع يده اليمنى بالكتاب والسنة والإجماع قال تعالى: ﴿وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ, فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [المائدة:38 – 39] ولا يجوز بعد ثبوت الحد -بالبينة أو الإقرار- تأخيره، ولا مال يفتدى به ولا غيره، بل تقطع يده
وإذا قطعت يده حسمت واستحب أن تعلق في عنقه، فإن سرق ثانيا: قطعت رجله اليسرى، فإن سرق ثالثا ورابعا: فيه قولان للصحابة ومن بعدهم من العلماء
أحدهما: تقطع أربعته في الثالثة والرابعة وهو قول أبي بكر رضي الله عنه ومذهب الشافعي وأحمد في إحدى الروايتين
والثاني: أنه يحبس وهو قول علي رضي الله عنه والكوفيين و أحمد في روايته الأخرى
وإنما تقطع يده إذا سرق نِصابا وهو ربع دينار أو ثلاثة دراهم عند جمهور العلماء من أهل الحجاز وأهل الحجاز وغيرهم كمالك و الشافعي و أحمد ومنهم من يقول: دينار أو عشرة دراهم فمن سرق ذلك قطع بالاتفاق، وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله ﷺ: (تقطع اليد في ربع دينار فصاعد) [البخاري: 6789، مسلم: 1684]
ولا يكون السارق سارقا حتى يأخذ المال من حرز، فأما المال الضائع من صاحبه، والثمر الذي يكون في الشجر في الصحراء بلا حائط، والماشية التي لا راعي عندها، ونحو ذلك فلا قطع فيه، لكن يعزز الآخذ ويضاعف عليه الغُرم.
[حد الزنا]
وأما الزاني: فإن كان مُحصنا، فإنه يُرجَم بالحجارة حتى يموت، كما رجم النبي ﷺ ماعز بن مالك الأسلمي، ورجم الغامِدية، ورجم اليهودية، ورجم غير هؤلاء، ورجم المُسلمون بعده.
واختلف العلماء: هل يُجلَد قبل الرجم مائة، على قولين في مذهب أحمد وغيره.
وإن كان غير مُحصَنٍ، فإنه يجلد مائة جلدة بكتاب الله، ويغرَّبُ عامًا بسُنة رسول الله ﷺ، وإن كان بعض العلماء لا يرى وجوب التغريب.
ولا يقام عليه الحد حتى يشهد عليه أربعة شهداء، أو يشهد على نفسه
والمحصن هو الحر المكلف اذا وطئ من تزوجها بنكاح صحيح في قبلها ولو مرة واحدة.
وأما اللواط فمن العلماء من يقول: حده كحد الزنا وقد قيل دون ذلك والصحيح الذي اتفقت عليه الصحابة: أن يقتل الاثنان الأعلى والأسفل. سواء كانا محصنين أو غير محصنين فإن أهل السنن رووا عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي ﷺ قال: (من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به) [الترمذي: 1456، أبو داود: 4462، أحمد: 1/ 300].
[حد شرب الخمر والقذف]
وأما حد الشرب: فإنه ثابت بسنة رسول الله ﷺ، وإجماع المسلمين، فقد روى أهل السنن، عن النبي ﷺ من وجوه أنه قال: (من شرب الخمر فاجلدوه، ثم إن شرب فاجلدوه، ثم إن شرب الخمر فاجلدوه، ثم إن شرب الرابعة فاقتلوه) وثبت عنه أنه جلد الشارب غير مرة، وهو وخلفاؤه والمسلمون بعده.
والقتل عند أكثر العلماء منسوخ، وقيل هو محكم، ويقال: هو تعزير يفعله الإمام عند الحاجة.
وقد ثبت عن النبي ﷺ: أنه ضرب في الخمر بالجريد والنعال أربعين، وضرب أبو بكر رضي الله عنه أربعين، وضرب عمر في خلافته ثمانين، وكان علي رضي الله عنه يضرب مرة أربعين ومرة ثمانين.
فمن العلماء من يقول: يجب ضرب الثمانين، ومنهم من يقول: الواجب أربعون، والزيادة يفعلها الإمام عند الحاجة، إذا أدمن الناس الخمر، أو كان الشارب ممن لا يرتدع بدونها ونحو ذلك، فأما مع قلة الشاربين وقرب أمر الشارب فتكفي الأربعون، وهذا أوجه القولين، وهو قول الشافعي، وأحمد رحمهما الله، في إحدى الروايتين عن أحمد.
والخمرة التي حرمها الله ورسوله وأمر النبي ﷺ بجلد شاربها كل شراب مسكر من أي أصل كان سواء من الثمار كالعنب والرطب والتين أو الحبوب كالحنطة والشعير أو الطلول كالعسل أو الحيوان كلبن الخيل بل لما أنزل الله – سبحانه وتعالى- على نبيه محمد ﷺ تحريم الخمر لم يكن عندهم بالمدينة من خمر العنب شيء لأنه لم يكن بالمدينة شجر عنب وإنما كانت تجلب من الشام وكان عامة شرابهم من نبيذ التمر وقد تواترت السنة عن النبي ﷺ وخلفائه وأصحابه رضي الله عنهم أنه حرم كل مسكر وبين أنه خمر.
[النبيذ المباح]
وكانوا يشربون النبذ الحلو وهو أن ينبذ في الماء تمر وزبيب أي يطرح فيه، والنبذ: الطرح ليحلوا الماء، لا سيما كثير من مياه الحجاز فإن فيه ملوحة فهذا النبيذ حلال بإجماع المسلمين لأنه لا يسكر.
والحد واجب إذا قامت البينة أو اعترف الشارب.
والحشيشة المصنوعة من ورق العنب حرام أيضا يجلد صاحبها كما يجلد شارب الخمر وهي أخبث من الخمر من جهة أنها تفسد العقل والمزاج حتى يصير في الرجل تخنث ودياثة وغير ذلك من الفساد، والخمر أخبث من جهة أنها تفضي إلى المخاصمة والمقاتلة، وكلاهما يصد عن ذكر الله تعالى وعن الصلاة.
[حد القذف]
ومن الحدود التي جاء بها الكتاب والسنة وأجمع عليها المسلمون حد القذف، فإذا قذف الرجل محصنا بالزنا أو اللواط وجب عليه الحد ثمانون جلدة، والمحصن هنا هو الحر العفيف، وفي باب حد الزنا هو الذي وطئ كاملا في نكاح تام.
[المعاصي التي ليس فيها حد مقدر]
وأما المعاصي التي ليس فيها حد مقدر ولا كفارة، كالذي يقبل الصبي والمرأة الأجنبية، أو يباشر بلا جماع، أو يأكل ما لا يحل كالدم والميتة، أو يقذف الناس بغير الزنا، أو يسرق من غير حرز، أو شيئا يسيرا، أو يخون أمانته، كولاة أموال بيت المال أو الوقف، ومال اليتيم ونحو ذلك، إذا خانوا فيها، كالولاة والشركاء، إذا خانوا، أو يغش في معاملته، كالذين يغشون في الأطعمة والثياب ونحو ذلك، أو يطفف المكيال والميزان، أو يشهد الزور، أو يلقن شهادة الزور، أو يرتشي في حكمه، أو يحكم بغير ما أنزل الله، أو يعتدي على رعيته، أو يتعزى بعزاء الجاهلية، أو يلبي داعي الجاهلية، إلى غير ذلك من أنواع المحرمات، فهؤلاء يعاقبون تعزيرا وتنكيلا وتأديبا، بقدر ما يراه الوالي، على حسب كثرة ذلك الذنب في الناس وقلته، فإذا كان كثيرا زاد في العقوبة، بخلاف ما إذا كان قليلا، وعلى حسب حال المذنب، فإذا كان من المدمنين على الفجور، زيد في عقوبته، بخلاف المقل من ذلك، وعلى حسب كبر الذنب وصغره.
والعقوبة نوعان:
أحدهما: على ذنب ماض جزاء بما كسب نكالا من الله كجلد الشارب والقاذف وقطع المحارب والسارق.
والثاني: العقوبة لتأدية حق واجب وترك محرم في المستقبل.
والجلد الذي جاءت به الشريعة: هو الجلد المعتدل بالسوط فإن خيار الأمور أوساطها
[جهاد الكفار]
العقوبات التي جاءت بها الشريعة لمن عصى الله ورسوله نوعان:
أحدهما: عقوبة المقدور عليه، من الواحد والعدد كما تقدم.
والثاني: عقاب الطائفة الممتنعة، كالتي لا يقدر عليها إلا بقتال.
فأصل، هذا هو جهاد الكفار أعداء الله ورسوله، فكل من بلغته دعوة رسول الله ﷺ إلى دين الله الذي بعثه به فلم يستجب له، فإنه يجب قتاله ﴿حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ﴾ [الأنفال:39]. وكان الله – لما بعث نبيه، وأمره بدعوة الخلق إلى دينه لم يأذن في قتل أحد على ذلك ولا قتاله، حتى هاجر إلى المدينة، فأذن له وللمسلمين بقوله تعالى: ﴿أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ, الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ, الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ﴾ [الحج: 39 – 41]. ثم إنه بعد ذلك أوجب عليهم القتال بقوله: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: 216]
ولهذا كان أفضل ما تطوع به الإنسان، وكان باتفاق العلماء أفضل من الحج والعمرة، ومن الصلاة التطوع، والصوم التطوع، كما دل عليه الكتاب والسنة، حتى قال النبي ﷺ: (رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة، وذروة سنامه الجهاد) [الترمذي: 2616، ابن ماجه 3973، أحمد: 5/ 231].
وإذا كان أصل القتال المشروع هو الجهاد ومقصوده هو أن يكون الدين كله لله وأن تكون كلمة الله هي العليا فمن منع هذا قوتل باتفاق المسلمين، وأما من لم يكن من أهل الممانعة والمقاتلة كالنساء والصبيان والراهب والشيخ الكبير والأعمى والزمِن ونحوهم، فلا يقتل عند جمهور العلماء إلا أن يقاتل بقوله أو فعله، وإن كان بعضهم يرى إباحة قتل الجميع لمجرد الكفر إلا النساء والصبيان لكونهم مالا للمسلمين والأول هو الصواب لأن القتال هو لمن يقاتلنا إذا أردنا إظهار دين الله كما قال الله تعالى: ﴿وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ﴾ [البقرة:190]
وفي السنن: عنه ﷺ: “أنه مر على امرأة مقتولة في بعض مغازيه قد وقف عليها الناس فقال: (ما كانت هذه لتقاتل)
وقال لأحدهم: (إلحق خالدا فقل له: لا تقتلوا ذرية ولا عسيفا) [أبو داود: 2669، ابن ماجه: 2842، أحمد: 4/ 178].
وفيهما أيضا عنه ﷺ أنه كان يقول: (لا تقتلوا شيخا فانيا ولا طفلا صغيرا ولا امرأة) [البخاري: 3014، مسلم: 1745، أبو داود: 2614].
فأما أهل الكتاب والمجوس فيقتلون حتى يستسلموا أو يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون.
ومن سواهم فقد اختلف الفقهاء في أخذ الجزية منهم إلا أن عامتهم لا يأخذونها من العرب وأيما طائفة ممتنعة انتسبت إلى الإسلام وامتنعت من بعض شرائعه الظاهرة المتواترة فإنه يجب جهادها باتفاق المسلمين حتى يكون الدين كله لله، وقد ثبت عنه ﷺ من وجوه كثيرة أنه أمر بقتال الخوارج.
[من واجبات الولاة]
ومتى اهتمت الولاة بإصلاح دين الناس صلح للطائفتين دينهم ودنياهم وإلا اضطربت الأمور عليهم وملاك ذلك كله حسن النية للرعية وإخلاص الدين كله لله والتوكل عليه فإن الإخلاص والتوكل جماع صلاح الخاصة والعامة كما أمرنا أن نقول في صلاتنا: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ [الفاتحة:5] فإن هاتين الكلمتين قد قيل: أنهما يجمعان معاني الكتب المنزلة من السماء.
وأعظم عون لولي الأمر خاصة ولغيره عامة ثلاثة أمور:
أحدها: الإخلاص لله والتوكل عليه بالدعاء وغيره وأصل ذلك المحافظة على الصلوات والبدن.
الثاني: الإحسان إلى الخلق بالنفع والمال الذي هو الزكاة.
الثالث: الصبر على أذى الحلق وغيره من النوائب.
وليس حسن النية بالرعية والإحسان إليهم أن يفعل ما يهوونه ويترك ما يكرهونه فقد قال الله تعالى: ﴿وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ﴾ [المؤمنون:71] وقال تعالى للصحابة: ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ﴾ [الحجرات: 7] وإنما الإحسان إليهم فعل ما ينفعهم في الدين والدنيا ولو كرهه من كرهه لكن ينبغي له أن يرفق بهم فيما يكرهونه.
وهذا يحتاج إليه الرجل في سياسة نفسه وأهل بيته ورعيته فأن النفوس لا تقبل الحق إلا بما تستعين به من حظوظها التي هي محتاجة إليها فتكون تلك الحظوظ عبادة لله.
وكما أن العقوبات شرعت داعية إلى فعل الواجبات وترك المحرمات فقد شرع أيضا كل ما يعين على ذلك فينبغي تيسير طريق الخير والطاعة والإعانة عليه والترغيب فيه بكل ممكن مثل أن يبذل لولده وأهله أو رعيته ما يرغبهم في العمل الصالح من مال أو ثناء أو غيره ولهذا شرعت المسابقة بالخيل والإبل والمناضلة بالسهام وأخذ الجعل عليها لما فيه من الترغيب في إعداد القوة ورباط الخيل للجهاد في سبيل الله حتى كان النبي ﷺ يسابق بين الخيل هو وخلفاؤه الراشدون ويخرجون الأسباق من بيت المال وكذلك عطاء المؤلفة قلوبهم فقد روى: (أن الرجل كان يسلم أول النهار رغبة في الدنيا فلا يجيء آخر النهار إلا والإسلام أحب إليه مما طلعت عليه الشمس) [مسلم: 2312].
وكذلك الشر والمعصية ينبغي حسم مادته وسد ذريعته ودفع ما يفضي إليه إذا لم يكن فيه مصلحة راجحة مثال ذلك ما نهى عنه النبي ﷺ فقال: (لا يخلون رجل بامرأة, فإن ثالثهما الشيطان) [الترمذي: 3/ 474، أحمد: 1/ 26]. وقال: (لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر مسيرة يومين إلا ومعها زوج أو ذو محرم) [مسلم: 1008]. فنهى ﷺ عن الخلو بالأجنبية والسفر بها لأنه ذريعة إلى الشر.
الحدود والحقوق
[النفوس]
وأما الحدود والحقوق التي لآدمي معين فمنها النفوس، قال تعالى: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً﴾ إلى قوله: ﴿وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً﴾ [النساء: 92 – 93]
فالقتل ثلاثة أنواع:
أحدهما: العمد المحض، وهو أن يقصد من يعلمه معصوما بما يقتل غالبا، فهذا إذا فعله وجب فيه القَوَد، وهو أن يمكن أولياء المقتول من القاتل، فإن أحبوا قتلوا، وإن أحبوا عفوا وإن أحبوا أخذوا الدية وليس لهم أن يقتلوا غير قاتله. قال الله تعالى: ﴿وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُوراً﴾ [الاسراء:33]، قيل في التفسير: لا يقتل غير قاتله.
فبين – سبحانه وتعالى – أنه سوى بين نفوسهم، ولم يفضل منهم نفسا على أخرى، كما كانوا يفعلونه إلى وله: ﴿وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً﴾ [المائدة:48] إلى قوله تعالى: ﴿أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ﴾ [المائدة:50] فحكم الله – سبحانه – في دماء المسلمين أنها كلها سواء، خلاف ما عليه أهل الجاهلية.
والنوع الثاني: الخطأ الذي يشبه العمد. قال النبي ﷺ: (ألا إن في قتل الخطأ شبه العمد ما كان في السوط والعصا مائة من الإبل، منها أربعون خلفة في بطونها أولادها) [النسائي 8/ 40، ابن ماجه 2627، أحمد: 3/ 410].سماه شبه العمد لأنه قصد العدون عليه بالضرب لكنه لا يقتل غالبا فقد تعمد العدوان ولم يتعمد ما يقتل.
والثالث: الخطأ وما يجري مجراه مثل أن يرمي صيدا أو هدفا فيصيب به إنسانا بغير علمه ولا قصده فهذا ليس فيه قود وإنما فيه الدية والكفارة وهنا ومسائل كثيرة معروفة في كتب أهل العلم بينهم.
[الجراح]
والقصاص في الجراح أيضا ثابت بالكتاب والسنة والإجماع، شرط المساواة، فإذا قطع يده اليمنى من مفصل، فله أن يقطع يده كذلك، وإذا قلع سنه، فله أن يقلع سنه، وإذا شجه في رأسه أو وجهه، فأوضح العظم، فله أن يشجه كذلك.
وإذا لم تمكن المساواة: مثل أن يكسر له عظما باطنا، أو يشجه دون الموضحة، فلا يشرع القصاص، بل تجب الدية المحدودة أو الأرش.
وأما القصاص في الضرب بيده أو بعصاه أو سوطه مثل أن يلطمه أو يلكمه أو يضربه بعصا ونحو ذلك فقد قال طائفة من العلماء: إنه لا قصاص فيه بل فيه تعزير لأنه لا تمكن المساواة فيه، والمأثور عن الخلفاء الراشدين وغيرهم من الصحابة والتابعين: أن القصاص مشروع في ذلك وهو نص أحمد وغيره من الفقهاء وبذلك جاءت سنة رسول الله ﷺ وهو الصواب.
[الأعراض]
والقصاص في الأعراض مشروع أيضا: وهو أن الرجل إذا لعن رجلا أو دعا عليه، فله أن يفعل به كذلك، وكذلك إذا شتمه شتيمة لا كذب فيها، والعفو أفضل.
قال الله تعالى: ﴿وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ, وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ﴾ [الشورى:41] قال النبي ﷺ: (المستبان: ما قالا فعلى البادئ منهما ما لم يعتد المظلوم) [مسلم: 2587، أبو داود: 4/ 274، الترمذي: 4/ 352، أحمد: 2/ 235] ويسمى هذا الانتصار.
والشتيمة التي لا كذب فيها مثل الإخبار عنه بما فيه من القبائح، أو تسميته بالكلب أو الحمار ونحو ذلك، فأما إن افترى عليه، لم يحل له أن يفتري عليه، ولو كفره أو فسقه بغير حق، لم يحل له أن يكفره أو يفسقه بغير حق، ولو لعن أباه أو قبيلته، أو أهل بلده ونحو ذلك، لم يحل له أن يتعدى على أولئك، فإنهم لم يظلموه، وقال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى﴾ [المائدة:8]
وإذا قتله بتحريق، أو تغريق، أو خنق أو نحو ذلك، فإنه يفعل به كما فعل، ما لم يكن الفعل محرما في نفسه كتجريع الخمر واللواط به، ومنهم من قال: لا قود عليه إلا بالسيف، والأولى أشبه بالكتاب والسنة والعدل.
[الفرية ونحوها]
وإذا كانت الفرية ونحوها لا قصاص فيها، ففيها العقوبة بغير ذلك.
[الأبضاع]
ومن الحقوق: الأبضاع، فالواجبُ الحكمُ بين الزوجين بما أمر الله تعالى به، من إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان، فيجب على كل من الزوجين أن يؤدي إلى الآخر حقوقه، بطيب نفس وانشراح صدر، فإن للمرأة على الرجل حقا في ماله، وهو الصداق والنفقة بالمعروف، وحقا في بدنه، وهو العشرة والمتعة، بحيث لو آلى منها استحقت الفرقة بإجماع المسلمين، وكذلك لو كان مجبوبا أو عنينا لا يمكنه جماعها فلها الفرقة، ووطؤها واجب عليه عند أكثر العلماء. وقد قال النبي ﷺ لعبد الله بن عمرو رضي الله عنه – لما رآه يكثر الصوم والصلاة -: (إن لزوجك عليك حقا) [البخاري: 1977، مسلم: 1159].
وللرجل عليها أن يتمتع بها متى شاء، ما لم يضر بها، أو يشغلها عن واجب، فيجب عليها أن تمكنه كذلك.
ولا تخرج من منزله إلا بإذنه أو بإذن الشارع، واختلف الفقهاء هل عليها خدمة المنزل كالفرش والكنس والطبخ ونحو ذلك؟ فقيل: يجب عليها، وقيل: لا يجب وقيل: يجب التخفيف منه.
[الأموال]
وأما الأموال فيجب الحكم بين الناس فيها بالعدل كما أمر الله ورسوله، مثل قسم المواريث بين الورثة، على ما جاء به الكتاب والسنة.
[الشورى]
لا غنى لولي الأمر عن المشاورة، فإن الله تعالى أمر بها نبيه ﷺ فقال تعالى: ﴿فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ﴾ [آل عمران:159] وقد روي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (لم يكن أحد أكثر مشورة لأصحابه من رسول الله ﷺ) وقد أثنى الله على المؤمنين بذلك في قوله: ﴿وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ﴾ [الشورى:38]
وإذا استشارهم، فإن بين له بعضهم ما يجب اتباعه من كتاب أو سنة رسوله أو إجماع المسلمين، وإن كان أمرا قد تنازع فيه المسلمون، فينبغي أن يستخرج من كل منهم رأيه، ووجه رأيه فأي الآراء كان أشبه بكتاب الله وسنة رسوله عمل به، كما قال تعالى: ﴿فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً﴾ [النساء:59]
[أولو الأمر]
وأولو الأمر صنفان: الأمراء والعلماء، وهم الذين إذا صلحوا صلح الناس فعلى كل منهما أن يتحرى ما يقوله ويفعله طاعة الله ورسوله واتباع كتاب الله ومتى أمكن في ا لحوادث المشكلة معرفة ما دل عليه الكتاب والسنة كان هو الواجب وإن لم يمكن ذلك لضيق الوقت أو عجز الطالب أو تكافؤ الأدلة عنده أو غير ذلك فله أن يقلد من يرتضي علمه ودينه هذا أقوى الأقوال.
[وجوب اتخاذ الإمارة]
ولاية الناس من أعظم واجبات الدين بل لا قيام للدين إلا بها، فإن بني آدم لا تتم مصلحتهم إلا بالاجتماع لحاجة بعضهم إلى بعض، ولا بد لهم عند الاجتماع من رأس، حتى قال النبي ﷺ: (إذا خرج ثلاثة في سفر فليؤمروا أحدهم)، رواه أبو داود، من حديث أبي سعيد وأبي هريرة. [2608، أحمد 2/ 176] فأوجب ﷺ تأمير الواحد في الاجتماع القليل العارض في السفر، تنبيها على سائر أنواع الاجتماع، ولأن الله – تعالى – أوجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ولا يتم ذلك إلا بقوة وإمارة. وكذلك سائر ما أوجبه من الجهاد والعدل وإقامة الحج والجمع والأعياد ونصر المظلوم، وإقامة الحدود لا تتم إلا بالقوة والإمارة، ويقال: ستون سنة من إمام جائر أصلح من ليلة بلا سلطان. والتجربة تبين ذلك.
ولهذا كان السلف كالفضيل بن عياض وأحمد بن حنبل وغيرهما يقولون: (لو كان لنا دعوة مجابة لدعونا بها للسلطان) وقال النبي ﷺ: (إن الله ليرضى لكم ثلاثة: أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا، وأن تعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا، وأن تناصحوا من ولاه الله أمركم) رواه مسلم [1715].
فالواجب اتخاذ الإمارة دينا وقربة يتقرب بها إلى الله، فإن التقرب إليه فيها، بطاعته وطاعة رسوله من أفضل القربات، وإنما يفسد فيها حال أكثر الناس لابتغاء الرياسة أو المال بها.
والناس أربعة أقسام:
القسم الأول: يريدون العلو على الناس، والفساد في الأرض وهو معصية الله، وهؤلاء الملوك والرؤساء المفسدون، كفرعون وحزبه.
والقسم الثاني: الذين يريدون الفساد، بلا علو، كالسراق المجرمين من سفلة الناس.
والقسم الثالث: يريد العلو بلا فساد، كالذين عندهم دين، يريدون أن يعلوا به على غيرهم من الناس.
وأما القسم الرابع: فهم أهل الجنة الذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا، مع أنهم قد يكونون أعلى من غيرهم كما قال الله تعالى: ﴿وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ [آل عمران:139]
فكم ممن يريد العلو ولا يزيده ذلك إلا سفولا، وكم ممن جعل من الأعلين وهو لا يريد العلو ولا الفساد، وذلك لأن إرادة العلو على الخلق ظلم، لأن الناس من جنس واحد، فإرادة الإنسان أن يكون هو الأعلى ونظيره تحته؛ ظلم.
فإذا كان المقصود بالسلطان والمال هو التقرب إلى الله وإنفاق ذلك في سبيله، كان ذلك صلاح الدين والدنيا. وإن انفرد السلطان عن الدين، أو الدين عن السلطان فسدت أحوال الناس، وإنما يمتاز أهل طاعة الله عن أهل معصيته، بالنية والعمل الصالح، كما في الصحيحين عن النبي ﷺ: (إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أموالكم، وإنما ينظر إلى قلوبكم وإلى أعمالكم) [مسلم: 2564، ابن ماجه: 4143، أحمد: 2/ 285].
ولما غلب على كثير من ولاة الأمور إرادة المال والشرف، صاروا بمعزل عن حقيقة الإيمان وكمال الدين، ثم منهم من غلب الدين، وأعرض عما لا يتم الدين إلا به من ذلك، ومنهم من رأى حاجته إلى ذلك، فأخذه معرضا عن الدين، لاعتقاده أنه مناف لذلك، وصار الدين عنده في محل الرحمة والذل، لا في محل العلو والعز، وكذلك لما غلب على كثير من أهل الديانتين العجز عن تكميل الدين، والجزع لما قد يصيبهم في إقامته من البلاء، استضعف طريقتهم واستذلها من رأى أنه لا تقوم مصلحته ومصلحة غيره بها.
وهاتان السبيلان الفاسدتان – سبيل من انتسب إلى الدين، ولم يكمله بما يحتاج إليه من السلطان والجهاد والمال، وسبيل من أقبل على السلطان والمال والحرب، ولم يقصد بذلك إقامة الدين هما سبيل المغضوب عليهم والضالين، الأولى للضالين النصارى، والثانية للمغضوب عليهم اليهود وإنما الصراط المستقيم، صراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، هي سبيل نبينا محمد ﷺ وسبيل خلفائه وأصحابه، ومن سلك سبيلهم، وهم الذين قال الله فيهم: ﴿وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ [التوبة:100]
فالواجب على المسلم أن يجتهد في ذلك بحسب وسعه، فمن ولي ولاية يقصد بها طاعة الله، وإقامة ما يمكنه من دينه، ومصالح المسلمين، وأصل ذلك في – قوله تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ, مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ, إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ﴾ [الذريات:56 – 58].
فنسأل الله العظيم أن يوفقنا وسائر إخواننا المسلمين، لما يحبه ويرضاه من القول والعمل، فإنه لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا دائما إلى يوم الدين.
([2]) رواه البخاري برقم (6494)
([3]) رواه البخاري (7149) ومسلم (1733)
([4]) البخاري (6622) ومسلم (1652)
([5]) البخاري (7288) ومسلم (1737)
([6]) البخاري: 7052، مسلم: 1843