بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد:
فقد اطّلعت على مقال في مدونات الجزيرة لصحفي يدعى خالد القاضي، اتهم فيه الشيخ ناصر الألباني بالتحريف، فأحببت أن أقدم له بيانًا، خاصة وقد بدأ مقالته وختمهما بنصوص تبيّن أهميّة الأمانة، وخطورة التحريف والخيانة، ولقد استشعرت فيها قول الألبيري رحمه الله تعالى:
وَقُل لي يا نَاصحي لَأَنتَ أَولى | بِنُصحِكَ لَو بِعَقلِكَ قَد نَظَرتا |
وللتوضيح، فقد قال الكاتب التالي:
قال السجزي: كل مدع للسنة، يجب أن يطالب بالنقل الصحيح بما يقوله، فإن أتى بذلك علم صدقه، وقبل قوله، وإن لم يتمكن من نقل ما يقوله عن السلف، علم أنه محدث زائغ، وأنه لا يستحق أن يصغى إليه، أو يناظر في قوله. أهـ |
وكلام السجزي هذا كان في سياق ذم الأشاعرة في كونهم ينقلون عن الأشعري وابن كلاب، ولا ينقلون عقيدتهم عن السلف. والكاتب جعل النقل في سياق آخر.
ثم قال الكاتب بعد:
قال سفيان بن عيينة: المرجئة سموا ترك الفرائض ذنباً بمنزلة ركوب المحارم وليس سواءً لأنن ركوب المحارم متعمداً من غير استحلال معصية، وترك الفرائض من غير جهلٍ ولا عُذْر كُفْر وخلاف ما أجمع عليه أهلُ السُّنة والجماعة في أنَّ الكفر يكونُ بالقول أو الفعل أو الاعتقاد أو الشك أو الترك. |
كلام ابن عيينة نقله عبد الله بن أحمد في كتاب”السنة” رقم 745، قال: حدثنا سويد بن سعيد الهروي، قال: سألنا سفيان بن عيينة عن الإرجاء، فقال: ” يقولون: الإيمان قول، ونحن نقول الإيمان قول وعمل والمرجئة أوجبوا الجنة لمن شهد أن لا إله إلا الله مصرا بقلبه على ترك الفرائض، وسموا ترك الفرائض ذنبا بمنزلة ركوب المحارم وليس بسواء لأن ركوب المحارم من غير استحلال معصية، وترك الفرائض متعمدا من غير جهل ولا عذر هو كفر..”
ولو حاكمناه إلى قواعده لقلنا أنه حرّف كلام ابن عيينة، ثم فتحنا خيالنا لاستخراج أسباب، وأطلقنا قلمنا في ذم التحريف. ولكننا نربأ بأنفسنا عن ذلك، ونعوذ بالله بمن الهوى.
البيان
قال الكاتب: التحريف الأول:
تحريف الشيخ الألباني في كتابه حكم تارك الصلاة لقول الإمام بن القيم في كتابه الصلاة (أن الكفر نوعان: كفر عمل وكفر جحود وعناد) إلى: قد أفاد – رحمة الله (أن الكفر نوعان: كفر عمل وكفر جحود و(اعتقاد)، وذلك في كتابه (حكم تارك الصلاة ص 37 دار الجلالين بالرياض)، وفي (السلسلة الصحيحة حديث 3054 ج7 ص134). لكن ما خطورة تبديل الشيخ الألباني لقول الإمام بن القيم؟ |
والجواب:
المصدران المذكوران ليسا موضعين متفرقين من كلام الألباني، وإنما الكلام كتبه الألباني في السلسلة الصحيحة، وأخذه علي الحلبي وطبعه منفردًا.
وقد قال الألباني: “فإنه حقق فيه تحقيقاً رائعاً ما هو مسلم به عند العلماء؛ أنه ليس كل كفر يقع فيه المسلم يخرج به من الملة. فمن المفيد أن أقدم إلى القارىء فقرات أو خلاصات من كلامه تدل على مرامه؛ ثم أعقب عليه بما يلزم مما يلتقي مع هذا الحديث الصحيح؛ ويؤيد المذهب الرجيح.
لقد أفاد رحمه الله أن الكفر نوعان: كفر عمل، وكفر جحود واعتقاد”
فيتبين للقارئ أن الألباني لم يزعم انه ينقل عن ابن القيم حرفيًا، وإنما (فقرات أو خلاصات من كلامه)، ثم قال (لقد أفاد رحمه الله) ولم يقل (ولقد قال) وكلمة (أفاد) تعني انه سيذكر فحوى الكلام، فهو لخّص ما فهمه من كلام ابن القيم، فلا يقال أنّه حرّفه.
ولننظر كلام ابن القيم، هل دل على ما فهمه الألباني أم لا. قال ابن القيم: “الكفر نوعان: كفر عمل وكفر جحود وعناد, فكفر الجحود أن يكفر بما علم أن الرسول جاء به من عند الله جحودا وعنادا من أسماء الرب وصفاته وأفعاله وأحكامه, وهذا الكفر يضاد الإيمان من كل وجه.”
فقوله (أن يكفر بما علم..) وقوله (من أسماء الرب وصفاته وأفعاله وأحكامه.. ) هذه أمور اعتقادية، فاختصرها الألباني بقوله: “لقد أفاد رحمه الله أن الكفر نوعان: كفر عمل، وكفر جحود واعتقاد”
قال الكاتب مبينا خطورة ما قال أنه تحريف:
هو بهذا التحريف يجعل الكفر المخرج من الملة فقط ما كان مشروطا باعتقاد |
والجواب:
قال الألباني مكملًا لما ذكره آنفًا: (وأن كفر العمل ينقسم إلى ما يضاد الإيمان وإلى ما لا يضاده)
فهو نقل ما يدل على أن ابن القيم يرى أن العمل منه ما يضاد الإيمان، وهو الكفر الأكبر، وهذا ما لا يوافِق الألبانيُّ ابنَ القيمِ عليه، بل ورد عليه، إلا أن ما يهم في هذا المقام أنه أثبته. فأين التحريف؟
ثم قال الكاتب: التحريف الثاني
تحريفه فيما ينقله عن شارح العقيدة الطحاوية أبي العز الحنفي ونسب إليه مالم يقله، في قوله (نقل عن أهل السنة القائلين بأن الإيمان قول وعمل يزيد وينقص، (أن الذنب أي ذنب كان هو كفر عملي لا اعتقادي)، وأن الكفر عندهم على مراتب كفر دون كفر كالإيمان عندهم) (العقيدة الطحاوية شرح وتعليق الألباني، المكتب الإسلامي 1398 هـ، صـ 40 ــ 41). وبمراجعة (شرح العقيدة الطحاوية) على تحقيقات العلامة أحمد شاكر وتحقيق بشير عيون، والتركي والأرنؤط تبين أن الشارح لم يقل ذلك البته. |
والجواب:
في شرح الطحاوية ط. الأوقاف ص303، قال ابن أبي العز “وَلَكِنْ مَنْ قَالَ: إِنَّ الْإِيمَانَ قَوْلٌ وَعَمَلٌ يَزِيدُ وَيَنْقُصُ قَالَ: هُوَ كُفْرٌ عَمَلِيٌّ لَا اعْتِقَادِيٌّ، وَالْكُفْرُ عِنْدَهُ عَلَى مَرَاتِبَ، كُفْرٌ دُونَ كُفْرٍ، كَالْإِيمَانِ عِنْدَهُ” والألباني قال: “نقل عن أهل السنة القائلين بأن الإيمان قول وعمل يزيد وينقص، أن الذنب أي ذنب كان هو كفر عملي لا اعتقادي وأن الكفر عندهم على مراتب: كفر دون كفر كالإيمان عندهم”
وبدون حاجة لمزيد نظر نجد أن قول الكاتب “تبين أن الشارح لم يقل ذلك البته” هو الأليق بأن يوصف بالوصف الذي نسبه للألباني.
وعندما نقارن بين كلام الالباني وكلام ابن أبي العز، نجد أن كلمة (هو) في كلام ابن أبي العز فسرها الألباني بأنها تشير إلى الذنب، فهل هذا صحيح؟
والآن أنقل لكم سياق كلام ابن أبي العز كاملا، واعذرون على الإطالة التي فيه، إلا أن المقام لا يسمح بأن أختصر شيئًا لألا يقال.. لكن سأعلّم المهم.. فالعودة إلى نهاية الصفحة قبل السابقة، نجد ابن أبي العز يقول: “وَلَكِنْ بَقِيَ هُنَا إِشْكَالٌ يَرِدُ عَلَى كَلَامِ الشَّيْخِ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَهُوَ: أَنَّ الشَّارِعَ قَدْ سمى بعض الذنوب كفرا، قال الله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ}. وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «سِبَابُ الْمُسْلِمِ فُسُوقٌ، وَقِتَالُهُ كُفْرٌ». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ»، وَ «إِذَا قَالَ الرَّجُلُ لِأَخِيهِ: يَا كَافِرُ – فَقَدْ بَاءَ بِهَا أَحَدُهُمَا». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ .
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا، وَمَنْ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْهُنَّ كَانَ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنَ النِّفَاقِ حَتَّى يَدَعَهَا: إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ. وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ، وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ مِنْ حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عَنْهُ.
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلَا يَسْرِقُ السَّارِقُ حِينَ يَسْرِقُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلَا يَشْرَبُ الْخَمْرَ حِينَ يَشْرَبُهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَالتَّوْبَةُ مَعْرُوضَةٌ بَعْدُ». وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَبَيْنَ الْكُفْرِ تَرْكُ الصَّلَاةِ». رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ أَتَى كَاهِنًا فَصَدَّقَهُ، أَوْ أَتَى امْرَأَةً فِي دُبُرِهَا، فَقَدْ كَفَرَ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ». وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ حَلَفَ بِغَيْرِ اللَّهِ فَقَدْ كَفَرَ». رَوَاهُ الْحَاكِمُ بِهَذَا اللَّفْظِ. وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ثِنْتَانِ فِي أُمَّتِي هما بهم كفر: الطعن في الأنساب، وَالنِّيَاحَةُ عَلَى الْمَيِّتِ». وَنَظَائِرُ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ.
والْجَوَابُ: أَنَّ أَهْلَ السُّنَّةِ مُتَّفِقُونَ كُلُّهُمْ عَلَى أَنَّ مُرْتَكِبَ الْكَبِيرَةِ لَا يَكْفُرُ كُفْرًا يَنْقُلُ عَنِ الْمِلَّةِ بِالْكُلِّيَّةِ، كَمَا قَالَتِ الْخَوَارِجُ، إِذْ لَوْ كَفَرَ كُفْرًا يَنْقُلُ عَنِ الْمِلَّةِ لَكَانَ مُرْتَدًّا يُقْتَلُ عَلَى كُلِّ حَالٍ، وَلَا يُقْبَلُ عَفْوُ ولي القصاص، ولا تجري الحدود في الزِّنَا وَالسَّرِقَةِ وَشُرْبِ الْخَمْرِ! وَهَذَا الْقَوْلُ مَعْلُومٌ بُطْلَانُهُ وَفَسَادُهُ بِالضَّرُورَةِ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ.
وَمُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّهُ لَا يَخْرُجُ مِنَ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ، وَلَا يَدْخُلُ فِي الْكُفْرِ ، وَلَا يَسْتَحِقُّ الْخُلُودَ مَعَ الْكَافِرِينَ، كَمَا قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ، فَإِنَّ قَوْلَهُمْ بَاطِلٌ أَيْضًا؛ إِذْ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ مُرْتَكِبَ الْكَبِيرَةِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، قَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} إِلَى أَنْ قَالَ: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ}. فَلَمْ يُخْرِجِ الْقَاتِلَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا، وَجَعَلَهُ أَخًا لِوَلِيِّ الْقِصَاصِ، وَالْمُرَادُ أُخُوَّةُ الدِّينِ بِلَا رَيْبٍ. وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} إِلَى أَنْ قَالَ: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ}.
وَنُصُوصُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الزَّانِيَ وَالسَّارِقَ وَالْقَاذِفَ لَا يُقْتَلُ، بَلْ يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِمُرْتَدٍّ.
وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ كَانَتْ عِنْدَهُ لِأَخِيهِ الْيَوْمَ مَظْلَمَةٌ مِنْ عِرْضٍ أَوْ شَيْءٍ فَلْيَتَحَلَّلْهُ مِنْهُ الْيَوْمَ، قَبْلَ أَنْ لَا يَكُونَ دِرْهَمٌ وَلَا دِينَارٌ، إِنْ كَانَ لَهُ عَمَلٌ صَالِحٌ أُخِذَ مِنْهُ بِقَدْرِ مَظْلَمَتِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ حَسَنَاتٌ أُخِذَ مِنْ سَيِّئَاتِ صَاحِبِهِ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ، ثُمَّ أُلْقِيَ فِي النَّارِ». أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ.
فَثَبَتَ أَنَّ الظَّالِمَ يَكُونُ لَهُ حَسَنَاتٌ يَسْتَوْفِي الْمَظْلُومُ مِنْهَا حَقَّهُ. وَكَذَلِكَ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «مَا تَعُدُّونَ الْمُفْلِسَ فِيكُمْ؟ قَالُوا: الْمُفْلِسُ فِينَا مَنْ لَا لَهُ دِرْهَمٌ وَلَا دِينَارٌ، قَالَ: “الْمُفْلِسُ مَنْ يَأْتِي يوم القيامة وله حسنات أمثال الجبال، فيأتي وقد شَتَمَ هَذَا، وَأَخَذَ مَالَ هَذَا، وَسَفَكَ دَمَ هَذَا، وَقَذَفَ هَذَا، وَضَرَبَ هَذَا، فَيَقْتَصُّ هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، فَإِذَا فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يَقْضِيَ مَا عَلَيْهِ أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ، ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ». رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ}. فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ فِي حَالِ إِسَاءَتِهِ يَعْمَلُ حَسَنَاتٍ تَمْحُو سَيِّئَاتِهِ. وَهَذَا مَبْسُوطٌ فِي مَوْضِعِهِ.
وَالْمُعْتَزِلَةُ مُوَافِقُونَ لِلْخَوَارِجِ هُنَا فِي حُكْمِ الْآخِرَةِ، فَإِنَّهُمْ وَافَقُوهُمْ عَلَى أَنَّ مُرْتَكِبَ الْكَبِيرَةِ مخلد في النار، قَالَتِ الْخَوَارِجُ: نُسَمِّيهِ كَافِرًا، وَقَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: نُسَمِّيهِ فَاسِقًا، فَالْخِلَافُ بَيْنَهُمْ لَفْظِيٌّ فَقَطْ.
وَأَهْلُ السُّنَّةِ أَيْضًا مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّهُ يَسْتَحِقُّ الْوَعِيدَ الْمُرَتَّبَ عَلَى ذَلِكَ الذَّنْبِ، كَمَا وَرَدَتْ بِهِ النُّصُوصُ. لَا كَمَا يَقُولُهُ الْمُرْجِئَةُ مِنْ أَنَّهُ لَا يَضُرُّ مَعَ الْإِيمَانِ ذَنْبٌ، وَلَا يَنْفَعُ مَعَ الْكُفْرِ طَاعَةٌ! وَإِذَا اجْتَمَعَتْ نُصُوصُ الْوَعْدِ الَّتِي اسْتَدَلَّتْ بِهَا الْمُرْجِئَةُ، وَنُصُوصُ الْوَعِيدِ الَّتِي اسْتَدَلَّتْ بِهَا الْخَوَارِجُ وَالْمُعْتَزِلَةُ -: تَبَيَّنَ لَكَ فَسَادُ الْقَوْلَيْنِ! وَلَا فَائِدَةَ فِي كَلَامِ هَؤُلَاءِ سِوَى أَنَّكَ تَسْتَفِيدُ مِنْ كَلَامِ كُلِّ طَائِفَةٍ فَسَادَ مَذْهَبِ الطائفة الأخرى.
ثم بعد هذا الاتفاق تبين أن أَهْلِ السُّنَّةِ اخْتَلَفُوا خِلَافًا لَفْظِيًّا، لَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ فَسَادٌ، وَهُوَ: أَنَّهُ هَلْ يَكُونُ الْكُفْرُ عَلَى مَرَاتِبَ، كُفْرًا دُونَ كُفْرٍ؟ كَمَا اخْتَلَفُوا: هَلْ يَكُونُ الْإِيمَانُ عَلَى مَرَاتِبَ، إِيمَانًا دُونَ إِيمَانٍ؟ وَهَذَا اخْتِلَافٌ نَشَأَ مِنَ اخْتِلَافِهِمْ فِي مُسَمَّى”الْإِيمَانِ”: هَلْ هُوَ قَوْلٌ وَعَمَلٌ يَزِيدُ وَيَنْقُصُ، أَمْ لَا؟ بَعْدَ اتِّفَاقِهِمْ عَلَى أَنَّ مَنْ سَمَّاهُ اللَّهُ تَعَالَى وَرَسُولُهُ كَافِرًا نُسَمِّيهِ كَافِرًا، إِذْ مِنَ الْمُمْتَنِعِ أَنْ يُسَمِّيَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ الْحَاكِمَ بِغَيْرِ مَا أَنْزِلَ اللَّهُ كَافِرًا، وَيُسَمِّيَ رَسُولُهُ مَنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ كَافِرًا – وَلَا نُطْلِقُ عَلَيْهِمَا اسْمَ”الْكُفْرِ”. وَلَكِنْ مَنْ قَالَ: إِنَّ الْإِيمَانَ قَوْلٌ وَعَمَلٌ يَزِيدُ وَيَنْقُصُ- قَالَ: هُوَ كُفْرٌ عَمَلِيٌّ لَا اعْتِقَادِيٌّ، وَالْكُفْرُ عِنْدَهُ عَلَى مَرَاتِبَ، كُفْرٌ دُونَ كُفْرٍ، كَالْإِيمَانِ عِنْدَهُ.
وَمَنْ قَالَ: إِنَّ الْإِيمَانَ هُوَ التَّصْدِيقُ، وَلَا يَدْخُلُ الْعَمَلُ فِي مُسَمَّى الْإِيمَانِ، وَالْكُفْرُ هُوَ الْجُحُودُ، وَلَا يَزِيدَانِ وَلَا يَنْقُصَانِ – قَالَ: هُوَ كُفْرٌ مَجَازِيٌّ غَيْرُ حَقِيقِيٍّ، إِذِ الْكُفْرُ الْحَقِيقِيُّ هو الذي ينقل عَنِ الْمِلَّةِ. عَنِ الْمِلَّةِ. وَكَذَلِكَ يَقُولُ فِي تَسْمِيَةِ بَعْضِ الْأَعْمَالِ بِالْإِيمَانِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} أَيْ صَلَاتَكُمْ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، إِنَّهَا سُمِّيَتْ إيمانا مجازا، لتوقف صحتها على الْإِيمَانِ، أَوْ لِدِلَالَتِهَا عَلَى الْإِيمَانِ، إِذْ هِيَ دَالَّةٌ عَلَى كَوْنِ مُؤَدِّيهَا مُؤْمِنًا. وَلِهَذَا يُحْكَمُ بإسلام الكافر إذا صلى كصلاتنا. فليس بين فقهاء الملة نِزَاعٌ فِي أَصْحَابِ الذُّنُوبِ، إِذَا كَانُوا مُقِرِّينَ بَاطِنًا وَظَاهِرًا بِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ وَمَا تواتر عنه أَنَّهُمْ مِنْ أَهْلِ الْوَعِيدِ. وَلَكِنَّ الْأَقْوَالَ الْمُنْحَرِفَةَ قَوْلُ مَنْ يَقُولُ بِتَخْلِيدِهِمْ فِي النَّارِ، كَالْخَوَارِجِ وَالْمُعْتَزِلَةِ.”
فنجد أن الشيخ تكلم عن عدم كفر مرتكب الكبيرة الذي جاءت النصوص بتسميته كافرا، أو تسمية فعله كفرًا، فقال ابن ابي العز (هُوَ كُفْرٌ عَمَلِيٌّ لَا اعْتِقَادِيٌّ) فهذا ما عبر عنه الألباني بعبارته المشار إليها “أن الذنب أي ذنب كان هو كفر عملي لا اعتقادي“.
وإن قيل أن الألباني قد يُناقش بكونه لا يرى الكفر العمل كفرًا أكبرًا إن لم يقترن باعتقاد، فهذه مسألة أخرى، ولكن نقله عن ابن ابي العز نقل سليم، لا مطعن فيه.
ثم قال الكاتب معقّبًا:
والألبـاني لم يكن أمينـا في النقل |
قلت: قد بيّنا سلامة نقل الألباني، ولننتقل إلى أمانة النقل عند منتقده، فمهما حاولنا إحسان الظن؛ لا يمكننا تصور أنك لم تنقل الكلام من كتاب “منهج الألباني في العقيدة” ص78 ، وعدم ذكر ذلك مخالف لأمانة النقل. وبيان سبب قولي هو الآتي:
فلعل الكاتب يراجع نفسه ويخبرنا، من الذي لا يتصف بأمانة النقل.
قال الكاتب: التحريف الثالث
تحريفه في النقل عن بن حجر في فتح الباري نصرة لمذهبه فقال: في (حكم تارك الصلاة ج1 ص160 – والصحيحة ج7 ص 149). ويعجبني بهذه المناسبة ما نقله الحافظ في (الفتح) (12 / 300) عن الغزالي أنه قال: (والذي ينبغي الاحتراز منه: التكفير ما وجد إليه سبيلا فإن استباحة دماء(المسلمين) المقرين بالتوحيد خطأ والخطأ في ترك ألف كافر في الحياة أهون من الخطأ في سفك دم لمسلم واحد). ونص كلام الحافظ في الفتح: وقال الغزالي في كتاب التفرقة بين الإيمان والزندقة والذي ينبغي الاحتراز عن التكفير ما وجد إليه سبيلا فإن استباحة دماء (المصلين) المقرين بالتوحيد خطأ والخطأ في ترك ألف كافر في الحياة أهون من الخطأ في سفك دم لمسلم واحد. |
قبل الرد أقول أنها بهذا اللفظ، العبدلي الذي نقل عنه الكاتب في الفقرة السابقة نقلها في كتابه “أصحاب التأويلات الفاسدة” ص73 كما نقلها الألباني، فإن كان محرفا فكيف صدّقته بأن ابن أبي العز لم يقل ما نقله الألباني؟!
أما الجواب:
هذا النقل باللفظ الذي ذكره الالباني نقله الشوكاني في نيل الأوطار ج7 ص199، ونسبه إلى كتاب “التفرقة بين الإيمان والزندقة” وهو الكتاب الذي نسب ابن حجر إليه القول، وفي شرح القسطلّاني ج10 ص87 نقل: “فإن استباحة دماء المسلمين المصلين”، وفي كتاب “الشفا بتعريف حقوق المصطفى” ط.دار الفيحاء 1470هـ ج2 ص595 نقس النقل، وقال المحقق عند كلمة (المصلين) وفي نسخة: (المسلمين).
فيتضح لنا أن ما وقع نابع عن اختلاف نسخ، وقد يرجع اختلاف نقل الألباني عن نقل ابن حجر إلى أحد سببين:
الأول: أن الألباني كتب من ذاكرته، وكان يحفظ العبارة بلفظ المسلمين كما قرأها بكتب أخرى.
الثاني: أنه تتبّع النسخ ووجد أن لفظ المسلمين أصح.
وبالرجوع إلى كتاب الاقتصاد في الاعتقاد للغزالي نفسه فإنه قال “فإن استباحة الدماء والأموال من المصلين إلى القبلة المصرحين بقول لا إله إلا الله محمد رسول الله خطأ…”
وقول (المصلين إلى القبة) يختلف عن قول (المصلين)، فـ(المصلين إلى القبلة) لا يُفهم منه عند من عرف كلام أهل العلم إلا أنه قصد المسلمين، ولم يقصد من يؤدي الصلاة.
وأما في كتابه الذي قال ابن حجر أنه نقل عنه فلم أجد عبارة قريبة إلا العبارة التالية: “أما الوصية فأن تكف لسانك عن أهل القبلة ما أمكنك ماداموا قائلين لا إله إلا الله غير مناقضين لها” ص15.
ثم ان الغزالي يرى أن تارك الصلاة لا يكفر، فقد قال في “الوسيط” ج2 ص378: “تَارِك الصَّلَاة إِذا قتل يصلى عَلَيْهِ” فلو أن الألباني يريد نصرة مذهبه فلا يحتاج إلى تغيير العبارة، وإنما يأتي بها ويبيّن بعدها أن الغزالي قصد بها المسلمين والدليل أنه لا يكفر تارك الصلاة.
فيتبين أن قول الكاتب:
فحرف الألباني قول الحافظ في الفتح وبدل كلمة (المصلين) ب(المسلمين) نصرة لمذهبه في عدم تكفير تارك الصلاة |
مجازفة لا وجه لها.
ثم قال الكاتب: التحريف الرابع:
حرّف كلام شارح العقيدة الطحاوية ونسب إليه قوله (فعلينا الاجتهاد في الاستغفار (والتربية) وإصلاح العمل) (الطحاوية تحقيق الألباني طبعة المكتب الإسلامي، صـ 47)، وفي أصل الشرح كلمة (التوبة) لا (التربية) |
والجواب:
هذا كما قال محقق الطبعة “في الأصل (التربية) وهو خطأ ند عن الشارح وكذلك سقطت الآية الكريمة عنده عفا الله عنه” فهو وهم في النقل، كما وهم الكاتب في نقل كلام سفيان بن عيينة، فلا إشكال في ذلك. لكن المشكلة أن الكاتب عنون مقالته بأنها عن تحريفات عقدية، فأين الجانب العقدي في قول الألباني (التربية) بدلا من (التوبة)؟
اضطر الكاتب هنا للإتيان بتعقيب يحاول فيه إلصاق جانب عقدي في المسألة ليوهم أنها تحريف، فقال:
ولو وهم الشيخ ما علق في الهامش وبني على هذا التحريف أنه لا يجب الخروج على الحكام المعاصرين بل الواجب الاشتغال بالتربية |
قلت: فما الذي فرّق التربية عن التوبة في هذا؟
سأنقل لكم قول الألباني كما جاء، وتنظروا من الأولى بتهمة التحريف
قال الألباني: “قد ذكر الشارح في ذلك أحاديث كثيرة تراها مخرجة في كتابه ثم قال [ابن ابي العز]: ” وأما لزوم طاعتهم وإن جاروا فلأنه يترتب على الخروج من طاعتهم من المفاسد أضعاف ما يحصل من جورهم بل في الصبر على جورهم تكفير السيئات فإن الله ما سلطهم علينا إلا لفساد أعمالنا والجزاء من جنس العمل فعلينا الاجتهاد في الاستغفار والتربية وإصلاح العمل. قال تعالى: {وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير} [الشورى: 30] {وكذلك نولي بعض الظالمين بعضا بما كانوا يكسبون} [الأنعام: 129] فإذا أراد الرعية أن يتخلصوا من ظلم الأمير الظالم فليتركوا الظلم
قلت [الألباني]: وفي هذا بيان لطريق الخلاص من ظلم الحكام الذين هم ” من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا ” وهو أن يتوب المسلمون إلى ربهم ويصححوا عقيدتهم ويربوا أنفسهم وأهليهم على الإسلام الصحيح “ |
فأولًا: لينظر أي عاقل ويقارن الكلامين، ويقل لي، هل الألباني بنى قوله بعدم الخروج على كلمة التربية، أم على ما صرّح به ابن أبي العز من كلام حاول المنتقد أن يوهم القارئ أن ابن أبي العز لم يقله؟
ثانيًا: ألا يدل قول الألباني تعليقًا على كلام ابن أبي العز “وهو أن يتوب المسلمون إلى ربهم” دليل على أنه أراد نقله كما هو بدلالة تعليقه هذا عليه، وأن جعله (التوبة) (التربية) ما هي إلا زلّة قلم؟
ثم قال الكاتب في الخاتمة
ترجع خطورة هذه التحريفات في أنها تقول وكذب متعمد وهذا لا يجوز لآحاد طلبة العلم الصغار فضلا عن العلماء |
وقد تبيّن لك أخي القارئ جليًّا بإذن الله بمن تليق هذه العبارة.
ثم قال:
وهـذه الأخطـاء تطعن في عدالة (الألباني) وتجعل الثقة لا تقوم بتقريراته العقدية خاصة، ويجعل الاعتماد على كتبه محل نظر. |
وقد ولا أشك أن لكل ذي نظر عرف أولى الناس بالطعن بعدالته، وجعل ما يكتبه محل نظر.
وأختم مذكّرًا بما قدّمت به من قول للألبيري:
وَقُل لي يا نَاصحي لَأَنتَ أَولى | بِنُصحِكَ لَو بِعَقلِكَ قَد نَظَرتا |
والحمد لله رب العالمين