واجهت مِن أصناف المبتدعة الكثير، فلم أر حزبًا كأتباع المدخلي ورسلان امتناعًا عن التفكير، وقلّة في الفهم، وفجورًا في الخصومة، وكذبًا على المسلمين، وإتيانًا لما يَنهون عنه، ونشاطًا في أذية المسلمين، ويضاف إليها قلة الأدب وفحش اللسان عند أتباع رسلان خاصّةً. كما ان هذه الفرقة -أعني أتباع رسلان والمدخلي ومن انشقَّ عنهم وبقي على منهجهم- لم يعد أحد يشك بأنهم قطّاع طريق، يقطعون على طلبة العلم طريقهم بالافتراء على أهل العلم مرة، وبإشغال طالب العلم في حروبهم الحزبية وشبهاتهم مرات. وقطّاع رحم، أعني الاخوّة التي جعلها الله تعالى بين المؤمنين، وقد قال الله تعالى: {الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ}
فترى الشّاب يذكر ربه فينوي الالتزام وطلب العلم، فتخطفه طائفة من هؤلاء تقنعه أن هؤلاء هم أهل السنّة، وهم أتباع السلف الصالح، فينضم إليهم، ويسمي نفسه أبو فلانة السلفي، ويقتنع أنه يتابع دروس أهل العلم، ويدافع عن السنّة، فما يلبث إلا أن يجد نفسه بعد سنين ما فعل شيئًا غيرالدفاع عن زعيم الطائفة، والسعي في خراب الأمة، وما اكتسب شيئًا من العلم إلا كما يكسب طالب العلم في شهرين عند أهل العلم الحقيقيين. فلات ساعة مندَمِ !
وقد لا يخطفونه ولكن يزرعون في قلبه الشبهات ويمنعونه من أهل العلم بالافتراء عليهم بأنهم أهل بدعة، ويصرفونه عنهم، حتى يضيع ويتشتت ويمتنع من العلم كله، أو يلتزم مذهبا باطلا بعيدًا عن تلك الحرب.
وهكذا يقول السبكي: “وإياك ثم إياك أن تصغي إلى ما اتفق بين أبي حنيفة وسفيان الثوري أو بين مالك وابن أبي ذئب، أو بين أحمد بن صالح والنسائي أو بين أحمد بن حنبل والحارث المحاسبي، وهلم جرا إلى زمان العز بن عبد السلام والتقي ابن الصلاح فإنك إذا اشتغلت بذلك خفت عليك الهلاك” [طبقات الشافعية ج2 ص278] يعني أن هؤلاء كان بينهم خصومات في زمانهم، فمن اشتغل بكلام بعضهم في بعض هلك.
وأذكر في هذا المقام قول ابن القيم رحمه الله، في كلامه عن إبليس الرجيم قال: “فإذا أعجزه العبد من هذه المراتب الست وأعيي عليه: سلط عليه حزبه من الإنس والجن بأنواع الأذى والتكفير والتضليل والتبديع، والتحذير منه، وقصد إخماله وإطفائه ليشوش عليه قلبه. ويشغل بحربه فكره، وليمنع الناس من الانتفاع به.” قلت: فانظر ببصرك وبصيرتك مَن هم جنود ابليس اليوم؟
وقد اشتهر هؤلا بغلوهم المفرط بتبديع من ليس من حزبهم، حتى صار التبديع سمةً لهم، فلقبهم بعض الناس بـ “غلاة التبديع“. يقول جمال الدين القاسمي في هذا الصدد: “من المعروف في سنن الاجتماع أن كل طائفة قوي شأنها وكثر سوادها، لا بد أن يوجد فيها الأصيل والدخيل، والمعتدل والمتطرف، والغالي والمتسامح، وقد وجد بالاستقراء أن صوت الغالي أقوى صدى وأعظم استجابة؛ لأن التوسط منزلة الاعتدال، ومن يحرص عليه قليل في كل عصر ومصر” [الجرح والتعديل].
وإن المساكين من الأتباع -وهذا من علامات جهلهم- يظنون أن ما هُم فيه من حرب للمؤمنين، وعداء لأولياء الله؛ أنه علم جرح وتعديل، ويظنون أن طعونات المدخلي وشتائم رسلان هي نتاج كونهما عالمين من علماء الجرح والتعديل. قال الشوكاني “وَأما ذَلِك الْعَالم الْمُحَقق الْمُتَكَلّم بِالصَّوَابِ فبالأحرى أَن لَا ينجو من شرهم وَيسلم من ضرهم وَأما عرضه فَيصير عرضه للشتم والتبديع والتجهيل والتضليل” وهذا وإن قاله في مبتدعة عصره، إلا أنه ينطبق على هذه الفرقة في عصرنا التي تنتسب إلى السلفيّة، وهم أبعد ما يكون عن ورع السلف، وإنصاف السلف، وأخلاق السلف.
ومثال على كلامي في تقمصهم دور علماء الجرح والتعديل، قال الإمام أحمد رحمه الله تعالى: “كل رجل ثبتت عدالته لم يقبل فيه تجريح أحد حتى يبين ذلك عليه بأمر لا يحتمل غير جرحه” [تهذيب التهذيب ج7 ص273] . ومعناها أن العالم الذي عُرف بالعدالة والسنّة، لا يُبل جرحٌ له من أحد إلا بفعل ليس له محمل حسن، ولا يمكن حمله إلا على البدعة. وهذه قاعد مهمة من قواعد الجرح والتعديل، قالها إمام من أئمة السلف، وأئمة الجرح والتعديل. أما هم، فجل طعوناتهم بأهل العلم الثقات تتمثل بأقوال أولَها هؤلاء الغلاة على طريقتهم، وفهموها كما شاؤوا، وبكلام من قبيل: “فلان يجالس المبتدعة” و”فلان ترحّم على فلان البتدع” وهكذا، حتى وصل الأمر بأحد كبرائهم “محمد المدخلي” أن يبدّع من دخل مكة ولم يزر ربيعًا المدخلي [اسمع التسجيل].
يقول جمال الدين القاسمي: “غريب أمر المُتَعَصِّبِينَ وَالغُلاَةِ الجَافِينَ، تراهم سراعًا إلى التكفير والتضليل والتفسيق والتبديع، وإن كان عند التحقيق لا أثر لشيء من ذلك إلا ما دعا إليه الحسد، أو حمل عليه الجمود وضعف العلم” [الجرح والتعديل ص37] وقال الحافظ الذهبي: “ليس كل كلام وقع في حافظ كبير بمؤثر فيه بوجه” [ميزان الاعتدال ج4 ص410]
إلا أن التابع المسكين يسير وراءهم دون هدى، ويتأثر بصوتهم العالي فيظنهم على الحق، وبسبب قلة ما عنده من العلم؛ يغلو فوق غلو قادته بمرّات، ويصبح صوته أعلى من صوت شيخه، فهو متفرّغٌ أكثر منه، وعنده من الجرأة ما ليس عند الشيخ الذي يخشى أحيانا من لوم الأقران والشيوخ والزملاء، فتراه يزيد بالشتم والذم والافتراء، واجتزاء الكلام للطعن فيها على العلماء.
وتجد المتأثر بهذا الفكر عنده من الجمود الفكري ما قد يخرج به من الحالة الطبيعية للبشر، فتجده يقدّس أقوال كبرائه لدرجة أنه لا يقبل مجرد التفكير بكونها قابلة للنقد. فتراه انصرف عن أهل العلم الأفاضل، بل ويروّج بنفسه الشبهات حولهم ليصرف الناس عنهم، ويقول أن فلانًا مبتدع، وعلانًا يقول بكذا، وقوله بدعة. وإذا سألته وجدته جاهلًا لا يعرف شيئًا من السنّة، بل الفاتحة التي يقرأها في صلاته لا يعرف ما فيها، ولا يعرف القراءة التي تجعل البسملة آية منها، والقراءة التي فيها أن البسملة ليست منها، ولا يعرف الفرق بين معنى الرحمن ومعنى الرحيم، ولا الفرق بين “مالك يوم الدين”، و”ملك يوم الدين”، ولهذا يقول ابن عبد البر في باب “حكم قول العلماء بعضهم في بعض”: “هذا باب قد غلط فيه كثير من الناس وضلت به نابتة جاهلة لا تدري ما عليها في ذلك” [جامع بيان العلم ج2 ص186]
ومن العجيب أن أبيات ابن القيم الآتية تطابق تمامًا حال هؤلاء، حين قال:
والثالث الأعمى المقلد ذينك الر … جلين قائد زمرة العميان
في اللعن والتكفير والتبديع والتـ … ـضليل والتفسيق بالعدوان
فإذا هم سألوه مستندا له … قال اسمعوا ما قاله الرجلان
فمن العمى والخذلان: الظن أن مجرد تصدر شخص يرمي العلماء بالبدعة؛ أن هذا طعن بالعلماء. قال ابن جرير الطبري: “لو كان كل من ادُّعي عليه مذهب من المذاهب الرديئة ثبت عليه ما ادعى به، وسقطت عدالته وبطلت شهادته بذلك: للزم ترك أكثر محدثي الأمصار، لأنه ما منهم إلا وقد نسبه قوم إلى مايرغب به عنه.” [هدي الساري لابن حجر ص 428]
وقال: “أما التضليل والتكفير والتبديع والتفسيق، فهذا لا يخلو منه عالم يريد أن يخرجَ بالنَّاس من الظلماتِ إِلى النُّورِ.” [كتاب الاستغفار بعد الصلوات ص10]
وعندما تقابل أحد هؤلاء بمثل هذه النقول وغيرها يردّها، ولا يأبه لها، ويمتنع عن التفكير امتناعًا شديدًا، ويرد بكلام مستفزّ لا يتعلّق بالمقام، كقولهم مثلًا: “الشيخ ربيع زكاه أهل العلم“. وهذه العبارة تعتبر سلاحه قبل الأخير، حيث أن الأخير هو شتمك مع ذِكر ألفاظ فيها تمجيد شيخه، فيقع السنّي في حيرة -حقيقةً- لا يعرف أيردّ على قصة التزكيات التي قالها العلماء في ربيع قبل انتكاسته وتحزّبه وغلوّه، والتي قالها أناس زكوا خصومه، أم تبين له عدم عصمة شيوخه وتظهر له أخطااهم علّه يتخذ قرارًا بالتفكير، أم تتركه في خوضه يلعب، أم ماذا تفعل!
ولو أنه فكّر لوجد أن كلام الأئمّة مستقيم، فخذ مثالًا: العلامة ابن الجوزي رحمه الله تعالى، إمام ومحدّث وفقيه، وزّكاه أهل السنّة سلفًا وخلفا وغيرهم، وشهد الثقات بأمانته في حياته وبعد موته، ومن العيب أن يقارن مثل ربيع به، ومع ذك تكلم في العلامة ابن عبد البر، وبدأ كلامه قائلًا: “ولقد عجبت لرجل أندلسي يقال له: ابن عبد البر، صنف كتاب التمهيد” ثم رماه بالجهل والبعد عن اتّباع الأثر، وأتى ببينة على كلامه -بينة من وجهة نظره-، وذلك في [صيد الخاطر ص99]. ولم يقل أحد أننا نطعن بابن عبد البر لأن ابن الجوزي طعن به، وفلان زكى ابن الجوزي، بل لم يُقبل هذا الطعن منه بابن عبد البر، ولا يشك من عرف قيمة الشيخين أنه أخطأ في حق ابن عبد البر في هذا التشنيع.
وهذا مثال في إمامين مشهورين، والأمثله في غيرهم ممن لم يشتهر عند العوام كثيرة جدًا -راجع القل عن السبكي في هذه المقالة-. فكون عالم قال كلامًا يطعن فيه على آخر، لا يعني بالضرورة أن هذا الكلام حق، بل يقول الإمام الذهبي: “لَسْنَا نَدَّعِي فِي أَئِمَّةِ الجَرْحِ وَالتَّعْدِيْلِ العِصْمَةَ مِنَ الغَلَطِ النَّادِرِ، وَلاَ مِنَ الكَلاَمِ بنَفَسٍ حَادٍّ فِيْمَنْ بَيْنَهُم وَبَيْنَهُ شَحنَاءُ وَإِحْنَةٌ” [السير ج7 ص40] وهذا الكلام يقوله عن أئمة الجرح والتعديل، وليس عن المنتحلين الذين لا يفرّقون بين علم الجرح والتعديل والكلام عن البندورة -كما اتضح من كلام رسلان في مقطع رددت عليه فيه- [شاهده].
فأختم القول بنصيحة لإخواني ممن تأثر بذلك الفكر السيء؛ بما قاله الحافظ الذهبي، إذ قال: “اسْتَفِقْ، وَيْحَكَ! وَسَلْ رَبَّكَ العَافِيَةَ، فَكَلاَمُ الأَقْرَانِ بَعْضُهُم فِي بَعْضٍ أَمْرٌ عَجِيْبٌ” [السير ج12 ص61].
وأقول لهم: انشغلوا بكلام ربكم وسنّة نبيّكم ولا تكونوا عونًا للشيطان على أمّتكم، وعلمائكم، ولا تجتالنكم الحزبيّات والأفكار المنحرفة.
والحمد لله رب العالمين.
(Visited 1٬483 times, 1 visits today)
المدخلي ورسلان وأتباعهما، والتبديع والبُهتان وأضرابهما، والجناية على الشباب المسلم، وعلى علم الجرح والتعديل