بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وبعد:
هذا استعراض موجَز للسيرة الشريفة يُعطي تصوُّرًا عامًّا عنها، ويكون مقدِّمَةً للدخول إلى ما فيها من تفاصيل وفوائد.
تفضَّل اللهُ تعالى على البشر بإرسال محمد ﷺ، ﴿قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا * رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقًا﴾ فالناس في زمانه ﷺ كانوا يعبدون الأصنام، وضلوا عن الله تعالى، فمنهم من أنكر الله بالكلية، ومنهم من نسب له البنات، ومنهم من نسب له الابن، ومنهم من عبد معه أوثانًا، كما فسدت كثير من معاملاتهم وتصرفاتهم، فولد بينهم في مكة طفل من نسَب شريف، من بني هاشم، من قريش، إلا أن أباه مات وهو جنين في بطن أمه، فلمَّا ولدته أرسلته إلى البادية ليتربى بينهم عند عائلة يرضعونه ويعلمونه العربية، وهذه عادة معروفة عند العرب، ثم عاد إلى أمه، فما لبث كثيرًا حتى توفيت أمه وهو ابن ست سنين، فربّاه جدُّه عبد المطَّلب، فمكث عنده عامين ثم توفي هو الآخر، فكفله من بعده عمُّه أبو طالب، وكان تاجرًا، فأخذه معه في رحلة تجارية إلى الشام، فلمَّا وصلوا بُصْرَى رآهم راهب اسمه بَحيرى، فأمسك بيد رسول الله ﷺ وقال لهم: «هذا سيد العالمين، هذا رسول رب العالمين يبعثه الله رحمة للعالمين، إنكم حين أقبلتم لم يبق شجر ولا حجر إلا خر ساجدا، ولا يسجدان إلا لنبي، وبين كتفيه علامة للأنبياء» [الرواية، بالمعنى] وطلب منهم أن لا يدخلوا به أرضَ الروم لكي لا يقتلوه، فأرجعوه إلى مكة.
لما كان في الخامسة والعشرين من عمره كان معروفًا بالأمانة والذكاء، فطلبت منه امرأةٌ اسمها خديجة أن يتاجر لها بمالها، فلمَّا رأت صدقه وأمانته كلَّفت صديقتها أن تعرض عليه أن يتزوج خديجة، فتزوج منها.
لمَّا بلغ الخامسة والثلاثين انهدمت الكعبة، فبناها العرب، وبقي لهم أن يرفعوا الحجر الأسود، فاختلفت القبائل مَن ينال شرف رفعه إلى الكعبة، فاقترح ﷺ عليهم أن يضعوه على قماشة ويحملها مِن كل قبيلة رجل، ثم ركَّبَه هو مكانه بيديه ﷺ.
في سن التاسعة والثلاثين حَبَّبَ اللهُ إليه أن يجلس مختليًا بنفسه في غار اسمه حِراء قريبٍ من الكعبة، فكان يصعد إليه ويجلس فيه أيامًا يتفكر، فلمّا بلغ الأربعين جاءه ملَك من عند الله تعالى اسمه جبريل، فضمه وتلا عليه قول الله تعالى: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ﴾ فرجع إلى زوجته مرعوبا مما رأى، فقالت: «أبشر، فوالله لا يخزيك الله أبدا، إنك لتصل الرحم، وتصدُقُ الحديث، وتعين الضعيف، وتكرِمُ الضيف، وتعين الناس في مصائبهم» فأخذته إلى ابن عمِّها ورقة بن نوفل، وكان نصرانيا عالمًا بالإنجيل، وكان شيخا كبيرا قد عمي، فلمَّا سمع قصته قال: هذا الملاك المرسل الذي أنزل على موسى ﷺ.
بدأ يدعو الناس إلى التوحيد سرًّا ثلاث سنوات، ثم أمره الله تعالى بالدعوة علنًا، فعاداه قومه، وصاروا يحرضون الناس عليه، لأنه خالف آباءهم وشيوخهم وعابَ أصنامهم، وقالوا إنه ينتقص من دينهم، ومن كبارهم، وكذبوه بعد أن كانوا يقولون إنه الصادق الأمين، ثم لمَّا رأوا أن هناك من آمن بدعوته؛ بدأوا بالإرهاب، فصاروا يعذِّبون المسلمين لعلهم يعودون إلى الكفر، ولكنَّ ذلك لم يزد المؤمنين إلا إيمانا. وصار يجتمع بالمسلمين اجتماعات سريَّة في دار الأرقم ابن أبي الأرقم ليعلمهم دينهم.
في السنة الخامسة من البعثة نصحَ ﷺ جماعةً من الصحابة بالهجرة إلى الحبشة (وهي إثيوبيا) للبعد عن أذى كفار قريش إياهم، واختار الحبشةَ لأن ملِكَها مع كونه كافرًا إلا أنه كان عادلًا، فمكثوا فيها عشر سنين.
بعد سنة أسلم حمزةُ عمُّ النبي ﷺ وعمرُ بن الخطاب، وكانا رجلين شديدين شَكَّلا حمايةً وقوة للمسلمين، وفي السنة التالية اتفقت قريش على مقاطعة بني هاشم قَرابَةِ النبي ﷺ ليكفُّوا عن حمايته ويُسلِّموه إلى قريش، وإلا فلا يكلموهم، ولا يبايعوهم، ولا يتعاملوا معهم بشيء. وكتب كفار قريش صحيفة في مقاطعة بني هاشم وعلقوها في الكعبة، فاعتزل بنو هاشمٍ الناسَ في مكان اسمه شِعب أبي طالب، والشِّعب هو مكان بين جبلين. وبقُوا هناك ثلاث سنين عانَوا فيها أشد المُعاناة، حتى فُك الحصار في أواخر السنة التاسعة.
وفي السنة العاشرة مات أبو طالب، وبعده بثلاثة أيام ماتت خديجةُ زوجةُ النبي ﷺ فحزن عليهما النبي ﷺ، حتى سُمِّي هذا العام عامَ الحُزن. ثم في شوال تزوج رسول الله ﷺ من سودة بنت زَمعة، وعقد زَواجه على عائشة بنتِ أبي بكر الصديق، وكان عمرها ست سنين، ولم يدخل بها إلا بعد الهجرة لما بلغت تسعَ سنين. وخرج في هذه السنة إلى الطائف لدعوتهم، فسخروا منه وآذوه، فرجع مهمومًا فعوَّضهُ الله بنفرٍ من الجِن أسلموا على يديه. ثم عاد إلى مكة تحت حماية المُطعمِ بنِ عَدي.
في السنة التالية بدأ يَعرضُ الدين على الوفودِ الذين يأتون للحج، وكان أهلُ الجاهلية يحُجُّون تَبَعًا لِمَا تبقى عندهم من دين إبراهيم، فآمن به ستةُ رجال من أهل يثرب، وهي التي ستسمى لاحقًا بالمدينة، وعادوا إلى بلدهم فدعَوا إلى الإسلام، فآمن معهم جماعة من الناس.
في السنة الثانية عشرة: كانت حادثة الإسراء والمعراج، حيث أتته الملائكة ومعهم دابَّةٌ شبيهةُ بالفَرَس، فركبها فأخذته من مكةَ إلى المسجِد الأقصى، فالتقى هناك بأرواح الأنبياء وصلى بهم إمامًا، ثم صعد مع جبريل على درج اسمه المِعراج حتى بلغ أعلى نقطة في السماء السابعة، عند شجرة سِدرٍ اسمها سِدرةُ المُنتهى، ودنا الجبار رب العزة، فتدلى حتى كان منه قاب قوسين أو أدنى، فأوحى الله فيما أوحى إليه: خمسين صلاة، كتبها علينا، ثم نزل محمد ﷺ فالتقى بموسى ﷺ، فقال له موسى: «سل ربك التخفيف فإن أمتك لا تطيق ذلك» فخففها الله إلى خمس، وهي خمسين في الأجر.
فلما رجع وأخبر قريشًا بذلك سخِروا مِنه وكذَّبُوه، وأولُ من صدَّقَ به أبو بكر الصديق رضي الله عنه.
وفي موسم الحج من هذه السنة جاءه وفد من أهل يثرب عددهم اثنا عشر رجلًا من المسلمين من الأوس والخزرج، فبايعوه عند العقبة في مِنى، والبيعةُ هي اتفاق وعهد على الإسلام. وأرسل معهم مصعبَ بنَ عُمَير يعلمهم القرآن.
وفي موسم الحج من السنة التالية جاءه ثلاثة وسبعون رجلاً وامرأتان من أهل يثرب يبايعونَه على أن يناصروه، ووعدهم بالهجرة إليهم والبقاء معهم فلا يرجعُ إلى مكة، فأمر أصحابَه بالهجرة، ومكث ينتظر أن يأذن له الله تعالى.
وفي هذه السنة اجتمع كفار قريش على مؤامرة لقتله، لكن الله نجاه فأوحى إليه بالهجرة، فهاجر ﷺ في شهر ربيع الأول مع صاحبه أبي بكر الصديق إلى المدينة المنورة، ليبدأ عهدًا جديدًا هناك، بنى مسجد قُباء أولًا، ثم الحرم المدني، وشرع الله لهم الأذان للصلاة، وزاد ركعات الظهر والعصر والعشاء إلى أربعة للمقيمين بعد أن كانت ركعتين.
وفي هذه السنة، أسس النبي ﷺ أخوة بين المهاجرين والأنصار، فصار لكل مهاجر أخًا من الأنصار يعينه ويؤيه.
وفي السنة الثانية للهجرة نصر الله نبيه في غزوة بدر على مشركي مكة. وحول الله القبلة في الصلاة مِن بيت المقدس إلى الكعبة. وفرض الله صيام رمضان، والزكاة.
وفيها زوج رسولُ الله ﷺ بنته فاطمة من علي بن أبي طالب. ودخل رسول الله ﷺ بعائشة.
وكان مع دخوله المدينة قد عاهد اليهود الذين حولها، فقض يهود بني قينقاع عهدهم مع النبي ﷺ فاعتدَوا على المسلمين، فحاصرهم النبي ﷺ وجيشه حتى استسلموا وأخرجهم من المدينة.
وفي السنة الثالثة فرض الله الحجاب على المسلمات، وحرَّم الخمر. وفيها تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم حفصة بنتَ عمر رضي الله عنهما، وزينب بنت خزيمة رضي الله عنها، وزينب بنت جحش رضي الله عنها، ووُلِدَ الحسن بن علي رضي الله عنهما.
وفي هذه السنة قرر مشركو مكة الانتقام من المسلمين، فهاجموهم عند جبل أحد، وأدت هذه الغزوة إلى استشهاد حوالي 70 من الصحابة وإصابة النبي ﷺ بعدة إصابات، منها كسر في إحدى أسنانه الأمامية، وجُرح في وجهه الشريف، ودخلت حلقتان من خوذته في وجنته، مما تسبب في نزيفه ﷺ. إلا أنه ثبت ﷺ رغم الخسائر في صفوفه، فلم يتمكن المشركون من هزيمة المسلمين ودفعهم للفرار، ولا أسر أحَد منهم ولا غنيمة أموالهم، ولهذا لما توقف القتال؛ قال أبو سفيان لرسول الله ﷺ: «إن موعدكم بدر» أي واعده بمعركة أخرى في بدر لينتصر بزعمه.
وفي السنة الرابعة كان النبي ﷺ جالسا إلى جانب بيت لبعض يهود بني النضير فأرادوا رمي صخرة على رأسه لقتله، فأنبأه الله تعالى، فقام مسرعا، ثم جهز جيشه وحاصرهم وأجلاهم عن المدينة بسبب خيانتهم للعهد. وأمر ﷺ زيد بن ثابت رضي الله عنه أن يتعلم لغة اليهود ليترجم له المراسلات معهم. وحصلت في هذه السنة حادثة الزنى بين يهوديين فرجمهما النبي ﷺ.
ثم جاء موعد غزوة بدر الآخرة التي أراد المشركين أن يهزموا فيها رسول الله بعد أن فشلوا في أحد، فخرج المسلمون للقاء المشركين عند بدرٍ، ولكن المشركين تراجعوا، فلم يحدث قتال.
وفي هذه السنة ولد الحسين بن علي، وتزوج النبي ﷺ من أم سلمة بنت أبي أمية.
وفي السنة الخامسة علِم النبي ﷺ بتجهُّز اليهود من بني المصطلق للإغارة على المدينة، فحرَّكَ جيشه نحوهم، ولقوهم عند منطقة المُرَيسيع، فقاتلوهم وهزموهم وغنموا منهم غنائم كبيرة، ومِن بين السبايا كانت جويرية بنت الحارث، ابنة زعيم القبيلة، التي اعتقها النبي ﷺ وتزوجها فصارت أما للمؤمنين. وفي رجوعهم من الغزوة افترى المنافقون على أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، فاتهموها بالفاحشة، فأنزل الله تعالى في القرآن براءتها.
وجرت غزوة الأحزاب، حيث حشدت قريش وقبائل أخرى جيشًا كبيرًا لمحاصرة المدينة النبوية. فكر المسلمون في حفر خندق لمنع المشركين من دخول المدينة، ثم أرسل الله بعد أيام ريحا اقتلعت خيام الأحزاب وأوقعت قدورهم، وفشل الحصار، وكانت قريش قد تحالفت مع يهود بني قريظة الذين نقضوا عهدهم مع النبي ﷺ، فلما عاد من غزوة الأحزاب غزا بني قريظة بسبب خيانتهم العهد. وتسرى ﷺ بريحانة من بني قريظة بعد أن أسلمت.
وفي السنة السادسة أجدبت الأرض فصلى رسول الله ﷺ صلاة الاستسقاء في رمضان، فانهال عليهم الغيث. وكسفت الشمس، فصلى بهم صلاة الكسوف أول مرة، وفرض الله فيها الحج، وحرم زواج المسلمة من الكافر.
وفي ذي القعدة منها خرج النبي ﷺ والمسلمون لأداء العمرة، لكن قريش منعتهم من دخول مكة. وتجهز المسلمون للحرب مع قريش، وبايعوا النبي ﷺ على القتال حتى الموت، وهذه التي تسمى بيعة الرضوان، لأن الله قال {لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة} وبعد مفاوضات مع المشركين؛ تم التوصل إلى اتفاق سُمي بصلح الحديبية، يتضمن وقفَ القتال بين المسلمين ومشركي مكة لمدة 10 سنوات، وعودة المسلمين هذا العام دون أداء العمرة، شريطة أن يعودوا في العام القادم لأدائها. وشمل الاتفاق على أن أي مكي يُسلم ويهاجر إلى المدينة؛ يعيدونه إلى قريش، وعدم إعادة من يشرك ويهرب من المدينة إلى مكة.
وبعد العودة إلى المدينة أرسل رسول الله ﷺ الرسائل إلى ملوك الدول يدعوهم إلى الإسلام.
في السنة السابعة غزا رسول الله ﷺ يهود خيبر بسبب نقضهم للعهد مع المسلمين، ودورهم في التحالف مع قريش في غزوة الأحزاب، فاقتحم المسلمون حصونهم واحدًا تلو الآخر، وبعد حصار طويل استسلم يهود خيبر، فسيطر المسلمون على أراضيهم، وجرى اتفاق بين النبي ﷺ وبينهم على أن يبقوا يزرعون الأرض على أن يأخذوا نصف المحصول.
وأثناء غزوة خيبر أنزل الله تعالى تحريم أكل لحوم الحمير الأهلية التي تربى في البيوت، وحرَّم زواج المُتعة. وسُبيَت فيها صفية بنت حيي، فأعتقها النبي ﷺ وتزوجها، وجعل عِتقها صَداقها، وتزوج هذه السنة من أم حبيبة، وميمونة بنت الحارث.
وبعد فتح خيبر أهدت امرأة يهودية إلى النبي ﷺ شاة ووضعت فيها السم، فأكل منها لقمة، فتكلمت الشاة وقالت إنها مسمومة، فسأل اليهودية، فاعترفت، وقالت: «أحببت إن كنت كاذبا أن أريح الناس منك وإن كنت صادقا علمت أن الله سيطلعك عليه» فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اذكروا اسم الله وكلوا» فأكلوا فلم يضرهم شيء.
ومر في عودته من خيبر على وادي القرى فقاتلهم وغنم أموالها وترك أرضها مع اليهود على نفس الاتفاق مع يهود خيبر. وأرسل محيصةَ بنَ مسعود إلى أهل فدك، وهي منطقة لليهود جانب خيبر، فوافقوا على نفس الاتفاق الذي كان مع أهل خيبر.
ثم علم رسول الله ﷺ أن بني ثعلبة وبني محارب بعد انهم يعدون العدة لغزو المدينة، فأرسل جيشه وغزاهم، وهذه التي تسمى بذات الرِّقاع، وفيها صلّى ﷺ بالصحابة صلاة الخوف لأول مرة، ونزلت فيها آية التيمم. ونصر الله المسلمين بالرعب، فهرب المشركون، وعاد المسلمون منتصرين.
وقدم في هذه السنة جعفر بن أبي طالب ومن معه من مهاجري الحبشة. ومعهم أبو موسى الأشعري ومن كان معه من قبيلة الأشعريين. وأسلم أبو هريرة وهاجر إلى النبي ﷺ.
وبعث النبي ﷺ حاطب بن أبي بلتعة إلى المقوقس عظيم مصر مع رسالة تدعوه لدخول الإسلام. المقوقس قرأ الرسالة ولم يقبل الدعوة، لكنه أظهر احترامًا للنبي ﷺ وأرسل هدية من بينها مارية القبطية، فتسرى بها رسول الله ﷺ، فكانت له أمة، لا زوجة.
ومن الأحداث أن أبا العاص الذي كان قد تزوج زينب بنت النبي ﷺ قبل البعثة. أسلم، فأعاد النبي ﷺ زينب إليه بناءً على عقد النكاح الأول دون عقد جديد.
وفي السنة الثامنة أسلم عمرو بن العاص وخالد بن الوليد وعثمان بن طلحة، وهاجروا إلى المدينة، كما جرى في هذه السنة عدد من الغزوات والسرايا، منها: ذات السلاسل، ومؤتة.
وفيها فتح مكة، حيث نقض مشركو مكة الصلح حين اعتدوا على إحدى القبائل الحليفة للمسلمين، فأعد النبي ﷺ جيشًا قوامه حوالي عشرة آلاف مقاتل، وتحرك المسلمون نحو مكة بدون إنذار ولم يكن كفار قريش مستعدون لملاقاة هذا الجيش. وقبل وصولهم إلى مكة سمع المشركون، وجاء أبو سفيان إلى رسول الله وأسلم، ثم رجع إلى قومه، فأخبرهم أن رسول الله ﷺ قال: من دخل داره فهو آمن، ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن، فدخل أكثرهم بيوتهم، وجرت بعض الاشتباكات اليسيرة، فدخل المسلمون مكة، وتوجهوا مباشرة إلى الكعبة، فأمر النبي ﷺ بتحطيم الأصنام التي كانت تحيط بها، ثم وقف أمام الكعبة وقال: ﴿جاء الحق وزهق الباطل﴾ وأعلن النبي ﷺ عفوًا عامًا عن أهل مكة، وأعطاهم فرصة للتوبة والإسلام، قائلاً: «اذهبوا فأنتم الطلقاء» أقام النبي ﷺ بمكة تسعة عشر يومًا يقصر الصلاة، ثم عاد إلى المدينة. وعلى إثر هذا الفتح أسلمت العديد من القبائل العربية التي كانت تنتظر انتصار النبي ﷺ على المشركين.
وجرت في هذه السنة غزوة حنين والطائف وأوطاس، كما أرسل رسول الله ﷺ سرايا لهدم الأصنام.
واعتمر رسول الله ﷺ في ذي القعدة، وتزوج فاطمة بنت الضحاك الكلابية، فاستعاذت منه ففارقها، فكانت بعد ذلك تلقط البعر وتقول: أنا الشقية. وولدت له مارية ابنه إبراهيم. وولدت ابنته زينب بنتها أمامة. وتوفيت زينب من نفس هذه السنة.
وفي السنة التاسعة سمع النبي ﷺ عن حشود للروم (الإمبراطورية البيزنطية) تتجمع في منطقة الشام لإبادة المسلمين، فحرك ﷺ الجيش بقيادته نحو تبوك، فتصره الله بالرعب وانسحب الروم من المنطقة، فصار الجيش الإسلامي هو الأقوى في المنطقة، فخضعت لدولة المسلمين إمارات مثل دومة الجندل وإيلة (العقبة حاليًا) التي كانت تحت سلطة الروم. وكتب الرسول ﷺ وفي طريق عودته ﷺ من تبوك همَّ المنافقون، بقتله فأطلعه الله على ما قصدوه، ففشلت خطتهم.
وكان المنافقون قد بنوا مسجدًا، فأمر بحرقه ﷺ.
وذهب المسلمون إلى الحج وأمَّر عليهم أبا بكر الصديق، ولم يذهب هو.
وتوالت في هذه السنة الوفود على رسول الله ﷺ يبايعونه على الإسلام.
وتوفيت أم كلثوم بنت النبي ﷺ. واعتزل النبي ﷺ نساءه لمدة شهر، وذلك بعد خلاف بينه وبينهن بسبب غيرتهن وبعض التصرفات التي حدثت منهن.
وفي السنة العاشرة اعتكف رسول الله ﷺ في رمضان عشرين يوما بدلا من العشرة التي كان يعتكفها كل عام، وعارضه جبريل القرآن مرتين بدلا من المرة التي كانت كل رمضان. وأرسل في هذا العام أبا موسى الأشعري ومعاذ بن جبل رضي الله عنهما ولاةً على اليمن.
وفيها حج ﷺ حجة الوداع، وفي هذا الوقت ادعى مسيلمة الكذاب أنه نبي. وأسلم فيها أمير الروم فروة بن عمرو الجذامي، فقتله قومه.
وجرت للمرة الرابعة محاولة اغتيال النبي ﷺ فقدم عامر بن الطفيل وأربد بن قيس إليه، وخطط عامر أن يشغل النبي ﷺ بالكلام، ويقوم أربد بالفتك به، فأحس رسول الله ﷺ بالأمر فلم يعطهما الفرصة، فدعا عليهما، فأهلك الله عامر بن الطفيل بعد وقت قصير، وأصابت صاعقة من السماء أربد بن قيس فمات في الحال.
ومات في هذه السنة إبراهيم ابن النبي ﷺ وعمره عام ونصف، وكسفت الشمس في نفس اليوم، فصلى النبي صلى الله عليه وسلم صلاة الكسوف.
وفي السنة الحادية عشرة ظهر الأسوَدُ العَنسي في اليمن مدعيا النبوة، وأمر رسول الله ﷺ أسامة بن زيد رضي الله عنه على سرية لغزو الشام. وأما الأسود العنسي فقتله فيروز الديلمي، فأخبر النبي ﷺ أصحابه بذلك قبل أن يأتي أحد بالخبر.
بدأ في آخر صفر المرض يشتد على رسول الله ﷺ، فلما اشتد وجعه كان في بيت ميمونة، فاستأذن نساءه أن يُمَرَّض في بيت عائشة، وأمر أبا بكر أن يصلي بالناس ثلاثة أيام، ولما نشط جاء وصلى خلف أبي بكر رضي الله عنه. ثم في يوم الإثنين بعد منتصف النهار توفي رسول الله ﷺ، ودفن في حجرة عائشة رضي الله عنها.