تفنيد دعوى نسبة التأويل إلى أئمة أهل السنة
تحليل بصري للرد العلمي لمحمد بن شمس الدين على محمد الددو
أصل الإشكالية: الادعاء ومحوره
تتمحور القضية حول ادعاء محمد الددو أن ثلاثة من كبار أئمة أهل السنة تبنوا منهج "التأويل" في صفات الله، وهو ما يخالف منهجهم المثبت في كتبهم.
نص الادعاء:
"أول من قال بالتأويل فيما أعلم البربهاري من الحنابلة."
الرد الموثق بالأدلة من مصنفات الأئمة
الإمام البربهاري (ت 329 هـ)
صاحب كتاب "شرح السنة"
الادعاء ضده:
أنه أول من قال بالتأويل.
الدليل من كتابه:
"فعليك بالتسليم والتصديق والتفويض والرضا، **ولا تفسر شيئًا من هذه بهواك**، فإن الإيمان بهذه واجب، فمن فسّر شيئًا من هذه بهواه أو رده فهو **جهمي**."
الإمام الصابوني (ت 449 هـ)
صاحب "عقيدة السلف وأصحاب الحديث"
الادعاء ضده:
أنه من المؤولة (ونُسب خطأً للحنابلة).
الدليل من كتابه:
"... **ولا يحرفون الكلام عن مواضعه** بحمل اليدين على النعمتين أو القوتين، **تحريف المعتزلة الجهمية**... بل يجرونها على الظاهر ويكلون علمها إلى الله تعالى."
شيخ الإسلام ابن تيمية (ت 728 هـ)
صاحب "الفتوى الحموية الكبرى"
الادعاء ضده:
أنه تبنى منهج التأويل.
الدليل من كتابه:
"وهذا قول المتكلمة والجهمية والمعتزلة ومن دخل معهم في شيء من ذلك... **والذي قصدنا الرد في هذه الفتية عليهم هم هؤلاء**."
الخلل المنهجي: كيف تُنسب المعتقدات؟
المنهج الخاطئ
مصادر ثانوية وشائعات
(مثل منشورات فيسبوك)
نتيجة خاطئة
اتهام الأئمة بالتأويل
المنهج الصحيح
المصادر الأولية الموثقة
(كتب الأئمة أنفسهم)
نتيجة صحيحة
الأئمة يحاربون التأويل
الخاتمة: خطورة الكلام بغير علم
"نتيجة عدم الاطلاع على كتب أهل السنة"
إن إطلاق الأحكام في مسائل الاعتقاد الدقيقة دون الرجوع للمصادر الأصلية يؤدي إلى الوقوع في أخطاء فادحة، ونسبة أقوال باطلة لأئمة الإسلام. وهذا يمثل تحذيرًا لكل من يتصدر للحديث في دين الله، ويدعو إلى وجوب التثبت والتحقق.
"والله أسأل أن يوفقه يهديه... والله يوفقه إلى توبة يصحح فيها كلامه الفاسد الذي قاله... يتوب من هذا الباطن ويلقى الله سبحانه وتعالى نقيًا تقيًا... هذا والله أحب إليّ."
تفنيد دعوى نسبة التأويل إلى أئمة أهل السنة: تحليل رد محمد بن شمس الدين على محمد الددو
1. مقدمة: قضية التأويل وخطورة الادعاء بغير علم
يتناول هذا التحليل بالدراسة المفصلة ردًا علميًا قدمه الباحث محمد بن شمس الدين على ادعاءات أطلقها محمد الددو تمس عقيدة ثلاثة من أبرز أئمة أهل السنة والجماعة. وتكمن أهمية هذا الرد في أنه يسلط الضوء على الأهمية المنهجية للتوثيق النصي والتحقق من المصادر الأولية عند نسبة المواقف العقدية، لا سيما لأعلام الإسلام الذين تُبنى على مصنفاتهم صروح المذاهب.
تتمحور الإشكالية المحورية التي يعالجها الرد حول اتهام الددو للإمام البربهاري، والإمام الصابوني، وشيخ الإسلام ابن تيمية بتبني منهج “التأويل” في صفات الله تعالى. ويُظهر محمد بن شمس الدين أن هذا الادعاء لا يفتقر إلى الأدلة من كتب هؤلاء الأئمة فحسب، بل إن مصنفاتهم تثبت نقيضه تمامًا، مما يجعل القضية مثالًا صارخًا على ما وصفه بأنه “نتيجة عدم الاطلاع على كتب أهل السنة“.
ولفهم أبعاد القضية على وجهها الصحيح، سنستعرض أولاً الادعاء المحدد الذي أطلقه محمد الددو لفهمه بوضوح، قبل الشروع في تفنيده بالأدلة القاطعة من مصنفات الأئمة أنفسهم.
2. عرض دعوى محمد الددو: التأويل ومذهب المتقدمين
لتقييم أي رد علمي، لا بد أولاً من فهم الدعوى الأصلية بدقة. يخصص هذا القسم لعرض حجة محمد الددو كما ساقها، والتي كانت منطلقًا لرد محمد بن شمس الدين التحليلي.
ينقل محمد بن شمس الدين نص كلام الددو الذي يقرر فيه قاعدة عامة ثم يخص بها الإمام البربهاري، حيث قال:
“قضية على الأقل وهي أن مذهب التأويل هو مذهب المتأخرين من أهل السنة جميعًا حتى الحنابلة، كيف ذلك؟ أول من قال بالتأويل فيما أعلم البربهاري من الحنابلة.”
ولفهم مصطلح “التأويل” في هذا السياق، فإنه يعني في الاصطلاح صرف اللفظ عن ظاهره المتبادر إلى معنى آخر مرجوح. وقد أوضح محمد بن شمس الدين تطبيقه العملي في هذا النقاش بأنه تحريف النصوص الواردة في صفات الله إلى معانٍ أخرى، كأن تُفسَّر صفة “اليد” لله بأنها “القدرة” أو “النعمة”، وذلك بدعوى تجنب التجسيم. وبهذا التعريف، فإن الددو ينسب إلى الإمام البربهاري ومن بعده الصابوني وابن تيمية منهجًا يقوم على صرف نصوص الصفات عن ظاهرها، وهو ادعاء خطير يتطلب برهانًا لا يقبل الدحض. في القسم التالي، سنشرع في تفنيد هذه الدعوى بالرجوع المباشر إلى مصنفات الأئمة المذكورين، لنرى ما إذا كانت أقوالهم تدعم هذا الادعاء أم تهدمه من أساسه.
3. الرد الموثق بالأدلة من مصنفات الأئمة
إن الرد العلمي الموثوق لا يعتمد على الانطباعات الشخصية أو النقل غير الموثق، بل يرجع إلى المصادر الأصلية ليستنطق نصوصها. وفي هذا القسم، سنفحص موقف كل إمام على حدة، مستخدمين الاقتباسات التي قدمها محمد بن شمس الدين من كتبهم مباشرة، لإظهار التناقض الجذري بين عقيدتهم الحقيقية وبين دعوى التأويل التي نُسبت إليهم.
3.1. الإمام البربهاري (ت 329 هـ) ومنهجه في “شرح السنة”
كان الادعاء الأول والأكثر تحديدًا للددو هو أن الإمام البربهاري كان “أول من قال بالتأويل من الحنابلة”. لكن بالعودة إلى كتابه الشهير “شرح السنة”، نجد نصًا قاطعًا يهدم هذه الدعوى. يقول الإمام البربهاري في سياق حديثه عن نصوص الصفات:
“فعليك بالتسليم والتصديق والتفويض والرضا، ولا تفسر شيئًا من هذه بهواك، فإن الإيمان بهذه واجب، فمن فسّر شيئًا من هذه بهواه أو رده فهو جهمي.”
إن هذا النص لا يدحض دعوى التأويل فحسب، بل يمثل نقيضها المنهجي. فالإمام يأمر بـ”التسليم” و”التفويض”، وينهى صراحة: “ولا تفسر شيئًا من هذه بهواك”. وهذا الموقف، كما يوضح محمد بن شمس الدين، هو عكس ما كان سيقوله لو كان مؤولاً، حيث كان سيقول: “عليك أن تؤولها وتصرفها عن معانيها لأنها تجسيم”. وبدلاً من ذلك، يختم البربهاري حكمه على من يفسر هذه النصوص برأيه بأنه “جهمي”، وهي ليست مجرد تسمية، بل هي تصنيف عقدي يضع هذا الفعل خارج دائرة منهج أهل السنة والجماعة، ويدرج صاحبه ضمن الفرق المنحرفة، مما ينسف ادعاء الددو من جذوره.
3.2. الإمام الصابوني (ت 449 هـ) ومنهجه في “عقيدة السلف وأصحاب الحديث”
الاتهام الثاني طال الإمام أبا عثمان الصابوني، مع خطأ إضافي أشار إليه محمد بن شمس الدين، وهو نسبة الصابوني (وهو من كبار علماء الشافعية) إلى الحنابلة، مما يدل على عدم دقة في المعلومة الأولية. أما فيما يتعلق بعقيدته، فإن كتابه “عقيدة السلف وأصحاب الحديث” يعد حصنًا منيعًا ضد التأويل. يقول الإمام الصابوني:
“ويثبتون له جل جلاله ما أثبت لنفسه في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، ولا يعتقدون تشبيهًا لصفاته بصفات خلقه… ولا يحرفون الكلام عن مواضعه بحمل اليدين على النعمتين أو القوتين، تحريف المعتزلة الجهمية أهلكهم الله… بل ينتهون فيها إلى ما قاله الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم من غير زيادة عليه ولا إضافة إليه، ولا تكييف له ولا تشبيه، ولا تحريف ولا تبديل ولا تغيير، ولا إزالة للفظ الخبر عما تعرفه العرب وتضعه عليه… ويجرونها على الظاهر ويكلون علمها إلى الله تعالى.”
إن هذه النصوص لا تدع مجالاً للشك. فالصابوني لا يرفض التأويل فحسب، بل يصفه بأنه “تحريف“، وينسبه صراحةً إلى “المعتزلة الجهمية”، ويضع قائمة من المنهيات (لا تحريف، لا تبديل، لا تغيير…) التي تغلق الباب تمامًا أمام منهج المؤولة. وهنا يطرح محمد بن شمس الدين سؤالاً منهجياً يكشف عمق الإشكالية: هل مصدر الددو في هذا الادعاء هو كتاب الصابوني نفسه، أم “بعض منشورات الأشعرية في فيسبوك”؟ إن هذا السؤال يسلط الضوء على خطورة بناء الأحكام العقدية على مصادر ثانوية غير موثوقة.
3.3. شيخ الإسلام ابن تيمية (ت 728 هـ) ومنهجه في “الفتوى الحموية الكبرى”
أما الادعاء الأخير، فيطال شيخ الإسلام ابن تيمية، وهنا تبلغ المفارقة ذروتها. فابن تيمية هو الإمام الذي كرس جزءًا كبيرًا من مشروعه الفكري لمحاربة مناهج المتكلمين والفلاسفة، وفي القلب منها منهج التأويل. يستشهد محمد بن شمس الدين بأحد أشهر مصنفات ابن تيمية في هذا الباب، وهو “الفتوى الحموية الكبرى”، الذي يقول فيه شيخ الإسلام واصفًا أهل التأويل:
“وهذا قول المتكلمة والجهمية والمعتزلة ومن دخل معهم في شيء من ذلك… والذي قصدنا الرد في هذه الفتية عليهم هم هؤلاء.”
إنها المفارقة الصارخة، أن يُتهم عالم بتبني المنهج الذي ألف كتابًا كاملاً للرد على أهله، واصفًا إياهم بأنهم “الجهمية والمعتزلة”. إن هذا الاتهام لا يصطدم بنص واحد أو نصين، بل يتجاهل المشروع الفكري لابن تيمية بأكمله، والذي كان من أهم أركانه إبطال مسالك المؤولة وإثبات منهج السلف القائم على إمرار نصوص الصفات كما جاءت.
بعد أن تم تفنيد الدعوى بشكل منهجي ضد كل إمام من الأئمة الثلاثة باستخدام كلماتهم، ينتقل التحليل الآن إلى استخلاص العبر والآثار المترتبة على ترويج مثل هذه الادعاءات غير الموثقة في مسائل الاعتقاد.
4. خاتمة: خطورة الكلام بغير علم ودعوة إلى التثبت
يكشف التحليل السابق أن الأدلة المباشرة المستقاة من مصنفات الإمام البربهاري، والإمام الصابوني، وشيخ الإسلام ابن تيمية لا تبرئهم من دعوى التأويل فحسب، بل تثبت أنهم كانوا من أشد المناوئين لهذا المنهج، معتبرين إياه تحريفًا لكلام الله وطريقة أهل البدع.
يرى محمد بن شمس الدين أن وقوع مثل هذه الأخطاء الفادحة هو “نتيجة عدم الاطلاع على عقيدة أهل السنة وعلى كتب أهل السنة” وأنه يندرج تحت باب “الكلام بغير علم“. وهذا يمثل تحذيرًا لكل من يتصدر للحديث في دقائق مسائل الاعتقاد، حيث إن الكلمة الخاطئة قد تنسب إلى أئمة الإسلام ما هم منه براء، وتُضلل العوام.
وقد عبر محمد بن شمس الدين عن قلقه البالغ من انتشار مثل هذا “الباطل الذي ينتشر بين الناس“، مؤكدًا على واجبه الشرعي في التحذير منه وتبيين الحق بالأدلة، خشية أن يلقى الددو الله “كاذبًا” بهذه الأقوال.
وفي ختام رده، لم يكتفِ بالتفنيد العلمي، بل أتبعه بنبرة نصح ودعاء صادق، مما يعكس حرصًا على هداية المخالف لا مجرد تسجيل انتصار عليه، إذ إن رجوعه إلى الحق هو الغاية الأسمى. وقد ختم كلامه بالدعاء التالي لمحمد الددو، والذي يجسد روح النصيحة:
“والله أسأل أن يوفقه يهديه… والله يوفقه إلى توبة يصحح فيها كلامه الفاسد الذي قاله واتهاماته هذه التي يقولها للعلماء… يتوب من هذا الباطل ويلقى الله سبحانه وتعالى نقيًا تقيًا… هذا والله أحب إليّ.”