شبهة إرضاع الكبير وأن عائشة تأمر به

بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله، وبعد:

الموضوع هنا متشابك، فالرافضة يطلِقون فيه عددا من الشبهات، وهي متداخلة. وموضوعنا اليوم عن أمر محدد وهو: هل كانت أمُّ المؤمنين تأمر النساء بأن يرضعنَ الكبار ليدخلوا عليها؟

الشبهة:

يقول الروافض قد روي في كتبكم يا أهل السنَّة:

كَانَتْ عَائِشَةُ تَأْمُرُ أَخَوَاتِهَا وَبَنَاتِ إخوتها أَنْ يُرْضِعْنَ ‌مَنْ ‌أَحَبَّتْ ‌عَائِشَةُ ‌أَنْ يَرَاهَا وَيَدْخُلَ عَلَيْهَا، وَإِنْ كَانَ كَبِيرًا خَمْسَ رَضَعَاتٍ، ثُمَّ يَدْخُلُ عَلَيْهَا، وَأَبَتْ أُمُّ سَلَمَةَ وَسَائِرُ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُدْخِلْنَ عَلَيْهِنَّ بِتِلْكَ الرَّضَاعَةِ أَحَدًا مِنَ النَّاسِ حَتَّى يَرْضَعَ فِي الْمَهْدِ، وَقُلْنَ لِعَائِشَةَ: وَاللهِ مَا نَدْرِي لَعَلَّهَا كَانَتْ رُخْصَةً مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم لِسَالِمٍ مِنْ دُونِ النَّاسِ

فكيف تستحل عائشة رضي الله عنها أن يرضع الرجال من قريباتها، وكيف تستحل بذلك أن يدخلوا عليها؟

 

الجواب

أولا: هل ثبت ذلك؟

هذا النص الذي يستشهدون به هو جزء من رواية رواها أحمد وأبو داود وابن الجارود وأبو عوانة وغيرهم.

إسناد جميعهم يلتقي عند ابن شهاب الزهري
الموطأ 2247 حدثني يحيى، عن مالك، عن ابن شهاب [الزهري]
أبو منصور الحاكم 11 – حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، أَخْبَرَنِي شُعَيْبٌ، عَنِ (الزُّهْرِيِّ)
أحمد: 26330 – حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَخِي ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عَمِّهِ [الزهري]
أبو داود 2061 – حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ صَالِحٍ، نَا عَنْبَسَةُ، حَدَّثَنِي يُونُسُ ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ [الزهري]
ابن الجارود 747 ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى، ثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ، ثَنَا ابْنُ أَخِي ابْنِ شِهَابٍ ، عَنْ عَمِّهِ [الزهري]
أبو عوانة 4868 ثنا محمد بن أحمد بن الجنيد، ثنا يعقوب بن إبراهيم، ثنا ابن أخي ابن شهاب، عن عمه [الزهري]
الطبراني 3079 – حَدَّثَنَا أَبُو زُرْعَةَ، ثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، عَنِ (الزُّهْرِيِّ)
ابن حبان 918 – أنا عمر بن سعيد بن سنان الطائي، أنا أحمد بن أبي بكر، عن مالك، عن ابن شهاب [الزهري]
وستأتي رواية مسلم

ورواه عن الزهري: مالك (ثقة) يونس بن يزيد (ثقة)، ومحمد بن عبد الله ابن أخي الزهري (صدوق) وشعيب بن أبي حمزة (ثقة).

والزهريُّ بنفسه ثقة إمام، إلا أنَّ الإشكالية هنا: هل هذا الخبر عن عائشة مِن روايته عن عروة أم مِن كلامه هو؟ فإن كان مِن روايته عن عروة فهو متصل صحيح، وإن كان مِن كلامه فهو مُرسَل غير صحيح.

والحقُّ -بإذن الله- أنَّه مِن كلام الزّهري بلا إسناد

 

أدلَّة أن الكلام مِن مراسيل الزهري:

أولا: في رواية الإمام مسلم :

قال الإمام مسلم

حدثني عبد الملك بن شعيب بن الليث ، حدثني أبي ، عن جدي ، حدثني عقيل بن خالد ، عن ابن شهاب ، أنه قال: أخبرني أبو عبيدة بن عبد الله بن زمعة ، أن أمه زينب بنت أبي سلمة ، أخبرته أن أمها أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم كانت تقول: « أبى سائر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أن يدخلن عليهن أحدا بتلك الرضاعة، وقلن لعائشة: والله ما نرى هذا إلا رخصة أرخصها رسول الله صلى الله عليه وسلم لسالم خاصة، فما هو بداخل علينا أحد بهذه الرضاعة، ولا رائينا».

صحيح مسلم (31 – (1454))

فالزُّهري لمَّا أسنَدَ الكلام؛ تغيَّر، فيكون ما قاله في الكلام موضع الشبهة مِن مراسيله (التي سيأتي الكلام عنها). أو كلام من عنده قاله بالمعنى فأخطأ فيه، فهذا الأثر ليس فيه أنَّها كانت تأمر أحدًا بإرضاع مَن تريد أن يدخل عليها، ولكنَّها كانت تفتي بجواز ذلك.

(وسنبحث مسألة رجوعها عنه بإذن الله).

 

ثانيا:

في موطأ الإمام مالك

عن مالك ، عن ابن شهاب ؛ أنه سئل عن رضاعة الكبير.
فقال: أخبرني عروة بن الزبير ، أن أبا حذيفة (الحديث) فأخذت بذلك ‌عائشة أم المؤمنين. في من كانت تحب أن ‌يدخل ‌عليها من الرجال. فكانت تأمر أختها أم كلثوم بنت أبي بكر الصديق. وبنات أختها أن ‌ترضعن من أحبت أن ‌يدخل ‌عليها من الرجال
وأبى سائر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، أن يدخل عليهن بتلك الرضاعة أحد من الناس. وقلن: لا والله، ما نرى الذي أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم سهلة بنت سهيل إلا رخصة من رسول الله صلى الله عليه وسلم، في رضاعة سالم وحده. لا، والله، لا يدخل علينا بهذه الرضاعة أحد. فعلى هذا كان أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، في رضاعة الكبير .

الموطأ 2247/ 537 ت الأعظمي

ففي هذه الرواية الأمر واضح جدًّا أن الكلام استطراد من الزهري، وليس من كلام عروة.

ثالثا: نص الجوهري على ذلك

قال أبو القاسم الجوهري (ت 381هـ) بعد أن روى حدث الموطأ السالِف:

«حَدِيثٌ ‌مُرْسَلٌ أَدْخَلَهُ النَّسَائِيُّ فِي الْمُسْنَدِ، وَقَدْ رَوَاهُ عُثْمَانُ بْنُ عُمَرَ، عَنْ مَالِكٍ فِي غَيْرِ الْمُوَطَّأِ مُسْنَدًا، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ ‌عَائِشَةَ، مُخْتَصَرًا، وَرَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَالِكٍ بِطُولِهِ، فَأَسْنَدَهُ أَيْضًا».

مسند الموطأ للجوهري (ص172)

 

هل الزُّهري كان يُدرِج في الأحاديث

كان الإمام الزُّهريُّ أحيانًا يحدِّثُ بأحاديث، ثم يعلِّقُ عليها بكلام من عنده بلا إسناد،

وهذا ما يسميه أهل العلم: (الإدراج)

لأن هناك من يتوهم أنه من ضمن الحديث. قال أبو حاتم: «وَقَدْ كَانَ الزُّهْري ‌يحدِّث ‌بِالْحَدِيثِ، ‌ثم ‌يقولُ ‌على ‌إثره ‌كلامً ، فكان أقوامٌ لا يَضْبِطون، فجعلوا كلامَهُ فِي الْحَدِيثِ، وأمَّا الحفَّاظُ وأصحابُ الْكُتُبِ فَكَانُوا يميِّزون كلامَ الزُّهْري من الحديث». [العلل لابن أبي حاتم (4/ 462 ت الحميد)]

ويسمونه (مُرسَل) لأن الزهري لا يذكر له إسنادا.

فما قيمة هذه المراسيل في ميزان أهل الحديث؟

«عَنْ يَحْيَى بْنِ مَعِينٍ قَالَ ‌مَرَاسِيلُ ‌الْزُّهْرِيِّ لَيْسَ بِشَيْءٍ». [المراسيل لابن أبي حاتم (ص3)]

«كان يحيى بن سعيد القطان لا يرى ‌إرسال ‌الزهري وقتادة شيئا، ويقول: هو يمنزلة الريح، ويقول: هؤلاء قوم حفاظ كانوا إذا سمعوا الشئ علقوه». [الجرح والتعديل – ابن أبي حاتم (1/ 246)]

قال الشافعي: «لو حابينا ‌لحابينا ‌الزهري، وإرسال الزهري ليس بشيء» [آداب الشافعي ومناقبه لابن أبي حاتم (ص61)]

وقال الذهبي: «‌مراسيل ‌الزهري ضعيفة». [تنقيح التحقيق – الذهبي (2/ 266)] وقال: «مِن أوهى المراسيل عندهم: مراسيلُ الحَسَن. وأوهى من ذلك: ‌مراسيلُ ‌الزهري». [الموقظة (ص40 ت أبي غدة)]

وقال ابن رجب: «فإن ‌مراسيل ‌الزهري لو صحت عنه من اضعف المراسيل». [فتح الباري لابن رجب (3/ 207)]

وبيَّن يحيى ابن سعيد علَّة وهاء هذه المراسيل بقوله: «مرسل الزهري شرّ من مرسل غيره لأنه حافظ، وكل ما قدر أن يسمِّي سمى، وإنما ‌يترك ‌من ‌لا ‌يستجيز ‌أن ‌يسميه». [المدخل إلى السنن الكبرى – البيهقي – ت عوامة (1/ 396)]

 

إشكالات

إذا قيل: مما يؤيد شبهتهم:

2241 – مالك ، عن عبد الرحمن بن القاسم ، عن أبيه ؛ أنه أخبره: أن ‌عائشة ، زوج النبي صلى الله عليه وسلم، كان ‌يدخل ‌عليها من ‌أرضعه أخواتها، وبنات أخيها. ولا ‌يدخل ‌عليها من ‌أرضعه نساء إخوتها.

الجواب: ليس فيها ذكر الكبير.

 

وإذا قيل: مما يؤيد شبهتهم:

2239 – مالك ، عن نافع ؛ أن سالم بن عبد الله أخبره، أن عائشة ، أم المؤمنين، أرسلت به ‌وهو ‌يرضع، ‌إلى ‌أختها ‌أم كلثوم بنت أبي بكر، فقالت: أرضعيه عشر رضعات، حتى يدخل علي.
قال سالم: فأرضعتني أم كلثوم ثلاث رضعات، ثم مرضت، فلم ترضعني غير ثلاث مرار، فلم أكن أدخل على عائشة، من أجل أن أم كلثوم، لم تتم لي عشر رضعات .

الجواب: هذه صريحة بأنَّها لا تتعلق بالكبير، ففيها بوضوح: (أرسلت به ‌وهو ‌يرضع). وزاد في رواية عبد الرزاق: «ليلج عليها إذا كبر». [مصنف عبد الرزاق (7/ 402 ط التأصيل الثانية)]

وقوله (ثم مرضت، فلم ترضعني غير ثلاث مرار) دليل على أنها م تكن تعمل برضاع الكبير، لأن رضاعه انتهى بسبب مرض أم كلثوم، فإذا بلغ سالم سنتين؛ لم يمكن استكمال الرضاعة، فلو كانت تأخذ برضاع الكبير لأمرتها أن تتم رضاعته بعد شفائها من مرضها.

 

كما أنَّهم يشغِّبون برواية الغلام الأيفع، وقد رددت عليها (في مقال خاص)

 

فهل عائشة كانت تفتي برضاع الكبير؟

لا شكَّ أنَّ الآثار جاءت بذلك، ولكن الأثر الفائت في رضاعة سالم يعارض قولها برضاع الكبير، فقد كانت تحب أن يدخل عليها، فلمَّا لم يستتم رضاعته صغيرًا لم تأمر برضاعته كبيرًا.

أضف إلى ذلك أنَّها هي من روى حديث «يَا ‌عَائِشَةُ، انْظُرْنَ مَنْ إِخْوَانُكُنَّ؛ فَإِنَّمَا الرَّضَاعَةُ ‌مِنَ ‌الْمَجَاعَةِ». [رواه البخاري ومسلم] وهو الحديث الذي يستدل به عامة أهل العلم على بطلان رضاع الكبير. فلا يُعقل أن عائشة ترويه وتعمل به ثم تكون فتواها بخلافه. إلا أن تكون رأت رأيًا فرجعت عنه، أو فُهِم عنها الفتوى غلطًا.

قال ابن المنذر: «وَلارضاع بعد الحولين … لقول النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم: «إنما الرضاعة من المجاعة» .». [الإقناع لابن المنذر (1/ 308)]

قال القدوري الحنفي: «والرضاع الموجب للتحريم ما كان في الصِّغَرِ، فأما رضاع الكبير فلا يتعلق به التحريم والدليل على ذلك قوله عليه السلام: “الرضاع ما أنبت اللحم وأنشز العظم”، وقال عليه السلام: “‌الرضاع ‌من ‌المجاعة”». [شرح مختصر الكرخي (4/ 192)]

وقال أحمد الشنقيطي المالكي: «قوله صلى الله عليه وسلم: “إِنَّمَا ‌الرَّضَاعَة ‌مِنَ ‌الْمَجَاعَةِ”. أي الرضاعة التىِ تثبت بها الحرمة ما يكون في الصغر». [مواهب الجليل من أدلة خليل (3/ 228)]

وقال الماوردي الشافعي: «الرضاع في الشرع مقدرا بحولين … روي عن النبي صلى الله عليه وسلم – أنه قال: ‌الرضاعة ‌من ‌المجاعة». [الحاوي الكبير (11/ 367)]

وقال ابن قدامة الحنبلي: «فجعل تمامَ الرَّضاعةِ حَوْلَيْنِ، فيَدُلُّ على أنَّه لا حُكْمَ لها بعدَهما. وعن عائشةَ… قال رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم: “انْظُرْنَ مَنْ إخْوَانُكُنَّ، فَإنَّمَا ‌الرَّضَاعَةُ ‌مِنَ ‌الْمَجاعَةِ”. مُتَّفَقٌ عليه». [المغني لابن قدامة (11/ 320)]

 

والله أعلم

التسجيل في الجريدة الإلكترونية

عند التسجيل ستصلك مقالات الشيخ الجديدة, كل مقال جديد يكتبه الشيخ سيصلك على الإيميل

(Visited 74 times, 6 visits today)
شبهة إرضاع الكبير وأن عائشة تأمر به
تمرير للأعلى