الباطنية ليست فرقة، وإنما مذهب فكري تندرج تحته فرق متعددة. ومدار هذا الفكر على تأويل النصوص الدينية على غير المعنى الظاهر منها، وإنما يقولون: ظاهر النصوص عبارة عن قشور يقتنع بها الدهماء والعوام، لكنها (النصوص) تحتوي لُبِّ هو أفضل من القِشر[[1]]، وأسرار مكنونة، وإشارات خفية، لها معانٍ باطنةٍ لا يفهمها إلا نخبة من أهل المعرفة بالله تعالى. أما هؤلاء الذين أخذوا بالظاهر فهم الأغبياء الذين أثقلوا أنفسهم بتحمل الأعباء في التكاليف الشرعية من أوامر ونواهي[[2]]. ولهذا تجد منهم مَن يفسر العبادات والشعائر الدينية على أنها رموز وأسرار لها تأويلات باطنية. ولايتقيد هو بها.
وإن الطوائف الباطنية مختلفة في هذه المعاني الباطنة اختلافًا كثيرا، قد يصل إلى درجة التناقض.
تأريخ هذا الفكر
هذه الفكر لم يظهر مع تشعب الفرق المنتسبة للإسلام، وإنما ظهر قبل الإسلام، ومن ذلك الفرقة الفارسية التي تدعى بـ«المزدكية» وهي فرقة تنتسب إلى دين اسمه «المانَوية»
وأما في الإسلام، فقد «ظَهر أَولا فى زمَان الْمَأْمُون وانتشرت فى زمَان المعتصم»[[3]] بل لعل ظهورهم كان قبل ذلك، فقد نقل ابن الجوزي في حوادث سنة 141هـ خروج فرقة «الراوندية» يقولون بتناسخ الأرواح، وأن ربهم الَّذِي يطعمهم ويسقيهم هو أبو جعفر المنصور…الخ وقال: «وهؤلاء طائفة من الباطنية»[[4]]
دخول هذا الفكر بين المسلمين سببه دخول جماعات من المزدكية الإسلام، وكانوا «يدعون الإسلام بإعلان الشهادة، ثم يجاهرون بترك الصلاة والزكاة والصوم والغسل وأكل الميتة»[[5]] لكن لعل ظهور الفكر الباطني لم يبرز ويشتهر إلا في زمان المأمون -ألهب الله قبره- لكثرة الفتن في زمانه.
وقد استغل هذا الأمر مِن الزنادقة ممن أراد إفساد الإسلام، كما فعل «قوم من المزدكية، يدعون الإسلام بإعلان الشهادة، ثم يجاهرون بترك الصلاة والزكاة والصوم والغسل وأكل الميتة»[[6]]
إلا أن المجاهرة بفكرهم نادرة، ففي الغالب هم يُظهِرون الدين، ولا يصرحون بتمردهم عليه لكي لا ينفر منهم الناس[[7]]
وقد تجد بعضهم يستقطب الناس بتأويلات جديدة للقرآن ليست مستشنعة، يحاول من خلالها جعل الناس يظنونه ذكيا عالما بالكتاب، ليمرر عليهم بعدها البطلان شيئًا فشيئًا.
فرق الباطنية
أول وأكثر دخول الفكر الباطني كان عند الشيعة، إذ أنهم بنوا دينهم على ضلالات وتأويلات منحرفة، فمنهم من ألَّه عليًا ومنهم من قال بالرجعة، أي أنه لم يمت، بل سيرجع في آخر الزمان ليملك الأرض[[8]] ولا تزال فيهم البدع حتى ظهرت:
الإسماعيلية: زعموا أنهم أتباع إسماعيل بن جعفر الصادق.
ثم الخطابية: أتباع أبي الخطاب، أحد موالي إسماعيل بن جعفر، زعموا أن الأئمة أنبياء. وسلكوا مسلك الخوارج في تكفير وحرب المسلمين.
ثم القرامطة: نسبة لأبرز مؤسسيها «حمدان بن قرمط» قالوا بإمامة محمد بن إسماعيل بن جعفر، زعموا أن الرسالة انتقلت إلى علي I في حياة النبي ﷺ، وأسسوا دولة في اليمن عام 266هـ، واسباحوا دماء المسلمين، وذبحوا الحجاج، وسرقوا الحجر الأسود.
ثم النصيرية: «كانوا يزعمون على بن أبى طالب I هو الله»[[9]] ولهم كتاب اسمه الجفر فيه سحر وطلاسم.
ثم الدروز: قالوا بأن الله حل في جسد الحاكم بأمر الله الفاطمي، وقالوا بتناسخ الأرواح.
ثم الحشاشين: وأسسوا دولة، واشتهروا بالاغتيالات والإجرام.
وهذه هي الأبرز.
حكمهم
قد حكم عليهم العلماء والمتكلمون في العقائد بالكفر لظهور انسلاخهم عن الشريعة، وفيما يلي بعض النقول:
قال الجصاص الحنفي: «وجوب قتال جميع أصناف الكفار وقتلهم … مثل القرامطة المتسمية بالباطنية»[[10]]
قال أبو منصور الأزهري: «وملحدوا زماننا هذا هؤلاء الذين تلقبوا بالباطنيه»[[11]]
قال أبو منصور البغدادي: «الذى يَصح عِنْدِي من دين الباطنية انهم دهرية زنادقة»[[12]]
قال ابن حزم: «كفار الباطنية عَلَيْهِم اللَّعْنَة من الله وَالْغَضَب»[[13]]
قال الباقلاني: «القرامطة الباطنية الذين كانوا يظهرون الإسلام ويبطنون الكفر»[[14]]
قال ابن تيمية: «وَلِهَذَا لَا يُعْرَفُ رِدَّةٌ أَسْوَأُ حَالًا مِنْ رِدَّةِ الْغَالِيَةِ كَالنُّصَيْرِيَّةِ، وَمِنْ رِدَّةِ الْإِسْمَاعِيلِيَّةِ الْبَاطِنِيَّةِ وَنَحْوِهِمْ»[[15]]
قال ابن القيم: «الملاحدة والزنادقة من القرامطة والباطنية وأمثالهم»[[16]]
قال ابن كثير: «وَيُقَالُ لَهُمُ الْبَاطِنِيَّةُ لِأَنَّهُمْ يُظْهِرُونَ الرَّفْضَ وَيُبْطِنُونَ الْكُفْرَ الْمَحْضَ»[[17]]
والنقول في هذا أكبر من أن تحصى.
________________
المصادر
[[4]] المنتظم في تاريخ الملوك والأمم (8/ 29).
[[5]] المنتظم في تاريخ الملوك والأمم (15/ 196).
[[6]] المنتظم في تاريخ الملوك والأمم (15/ 196).
[[8]] شرح السنة للبربهاري (ص129).
[[9]] الأنساب للسمعاني (13/ 121).
[[10]] شرح مختصر الطحاوي للجصاص (7/ 41).
[[11]] الزاهر في غريب ألفاظ الشافعي (ص248).
[[12]] الفرق بين الفرق (ص278).
[[13]] الفصل في الملل والأهواء والنحل (2/ 33).
[[14]] الاعتقاد القادري (ص242).
[[15]] منهاج السنة النبوية (3/ 459).
[[17]] البداية والنهاية ت شيري (11/ 71).