الانتقادات على قصيدة البردة للبوصيري

نقد قصيدة البردة للبوصيري

بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد،

مقدمة الإشكال: الغلو والشرك في البردة الشريفة

هذه القصيدة، بما تحتويه من أبيات فيها شرك بالله سبحانه وتعالى، ودعاء واستغاثة بغير الله، وإساءة لله وللأنبياء،

إن المتأمل في هذه الأبيات يجد فيها من الغلو ما يُصادم صريح النصوص الشرعية.

أولاً: الإساءة لكتاب الله عز وجل وآيات النبي صلى الله عليه وسلم

ينقل محمود شكري الألوسي في كتابه غاية الأماني (المجلد الثاني)، بعد أن ذكر بيتاً للبوصيري:

“ولو ناسبت قدرَه آياتُه عظما… أحيا اسمه حين يُدعى دارس الرِّمَم”

يُفهم من هذا البيت أنْ لو أن الله تعالى جعل للنبي صلى الله عليه وسلم آيات مناسبة لقدره، لكان مجرد ذكر اسمه كافيًا لإحياء الجثث الهامدة!

وهنا يعلّق محمود شكري الألوسي بقوله: “ولا يخفى ما في هذا الكلام من الغلو، فإن من جملة آياته صلى الله عليه وسلم القرآن العظيم الشأن، وهو الكتاب الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد”.

وقد نُقل عن كتاب غرائب الاغتراب أن هذا البيت للبوصيري مشكل وأمر معضل؛ لأن مقتضى حرف “لو”، وكون القرآن داخلاً في آيات النبي صلى الله عليه وسلم؛ هو ألَّا يكون القرآن العظيم مناسبًا لقدره عليه أفضل الصلاة وأكمل التسليم.

ثم يُنقل عن الشارح: “لم يزل الناس يعترضون هذا البيت لاقتضائه أن ليس فيما أُعطيه صلى الله عليه وسلم من الآيات ما يناسب قدره؛ لأن (لو) حرف امتناع لامتناع”.

إذاً، صاحب القصيدة أساء لكتاب الله سبحانه وتعالى إذ جعله ليس موافياً لقدر النبي صلى الله عليه وسلم، وأساء كذلك لما أعطى الله نبيه من آيات بأن الله لم يَفِه قدره بهذه الآيات.

 

ثانياً: الإساءة للأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم

من الأبيات التي تضمنت إساءة واضحة للأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم، قول البوصيري:

“وَقَدَّمَتْكَ جَمِيعُ الْأَنْبِيَاءِ بِهَا … وَالرُّسْلِ تَقْدِيمَ مَخْدُومٍ عَلَى خَدَمِ”

نحن نُقر ونؤمن بأن الأنبياء والرسل يُقدِّمُون النبي صلى الله عليه وسلم، فهو سيد الناس يوم القيامة، كما قال صلى الله عليه وسلم: “أنا سيد الناس يوم القيامة ولا فخر”. فهو مقدَّم على الأنبياء صلوات الله عليهم، ولكن البوصيري جعل التقديم “تقديم مَخدوم على خَدَم”. إن وصف الأنبياء وتشبيههم بالخَدَم هو انتقاص صريح في حقهم صلوات الله وسلامه عليهم.

وقد نُقل في كتاب الدرة الفريدة أن هذا البيت قد انتقده الصوفي عبد الله بن الصديق الغماري، حيث قال: “وهذا البيت من الأبيات الأربعة التي طعن فيها الشيخ عبد الله بن الصديق الغماري واستبدلها بغيرها وقال: ليس في جماعة الأنبياء بعضهم خادم وبعضهم مخدوم، فلا يصح من الناظم اعتبار بعضهم خادماً وبعضهم مخدوماً”. ويُضيف الغماري في نصه: “هذا خطأ لا شك فيه، لأن الأنبياء بعضهم مع بعض ليس فيهم خادم ومخدوم، وليس تفضيل بعضهم يقتضي أن يكون المفضول خادماً للفاضل، بل هم سواء في النبوة إلى آخره”.

ثالثاً: تقديم النبي على الله في صفة الرحمة

ومن الأبيات التي أساء فيها لله سبحانه وتعالى وجعل النبي صلى الله عليه وسلم فيها مقدماً على الله تبارك وتعالى، قوله:

“ولن يضيق رسول الله جاهك بي… إذا الكريم تجلى باسم منتقم”

انظر إلى ميزانه الأعوج: النبي صلى الله عليه وسلم صاحب الجاه الذي سيشفع، بينما الله سبحانه وتعالى هو المنتقم، فصار النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الحالة أرحم من رب العالمين؛ لأن الكريم تجلى باسم منتقم، أما الرسول صلى الله عليه وسلم فـ “رحيم جاهه وشفاعته ستنجي هذا الإنسان”.

وكأن هذه الشفاعة لن تكون بأمر من الله سبحانه وتعالى، فقد قال الله سبحانه وتعالى: {ولا يشفعون إلا لمن ارتضى}. الله هو الذي سيرتضي أن يشفع فيك النبي صلى الله عليه وسلم أيها المسلم، فرحمته هي  المقدَّمة.

ثم إن المنتقم ليس من أسماء الله الثابتة عند التحقيق.

وهذا من الأبيات التي انتقدها العلامة عبد اللطيف آل الشيخ في كتابه مصباح الظلام، حيث قال: “فليتأمل من نصح نفسه في هذه الأبيات ومعناها، ومن فُتن بها من العلماء والعباد، وهل يجتمع في قلب عابد التصديق بهذه الأبيات والتصديق بقوله: {يوم لا تملك نفس لنفس شيئا والأمر يومئذ لله}، وقوله: {يا فاطمة بنت محمد لا أملك لك من الله شيئا}”. ثم قال: “فمن عرف هذه المسألة وعرف البردة ومَن فُتن بها من العلماء والعباد والزهاد، عرف غربة الإسلام”.

 

رابعاً: القسم بغير الله والاستجارة بغيره (شرك أصغر)

ومن الأبيات الفاسدة فيها قوله:

“أَقْسَمْتُ بِالْقَمَرِ الْمُنْشَقِّ إِنَّ لَهُ … مِنْ قَلْبِهِ نِسْبَةً مَبْرُورَةَ الْقَسَمِ”

فقد أقسم بالقمر، والإقسام بغير الله لا يجوز. ولا تقل إن الله أقسم به، فالله سبحانه وتعالى لا تحكمه الأحكام الشرعية التي تحكمنا. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم -كما عند أحمد في المسند والترمذي وغيرهما-: (من حلف بغير الله فقد أشرك).

وهذا البيت انتقد سليمان الفريجي.

والبيت الآخر كذلك:

“مَا سَامَنِي الدَّهْرُ ضَيْمًا وَاسْتَجَرْتُ بِهِ … إِلَّا وَنِلْتُ جِوَارًا مِنْهُ لَمْ يُضَمِ”

وهذا فيه أيضاً استجارة بالنبي صلى الله عليه وسلم. وقد قال عبد البديع السيد صقر في كتاب نقد البردة: “نقول ليس شرطاً على رسول الله صلى الله عليه وسلم أن كل من استجار به يجيره، ولا كل من استشفع به يشفع له، فالأمر كما قال صلى الله عليه وسلم: (اشفعوا تُؤجروا ويقضي الله على لسان نبيه ما أحب)، وأن الأمر لله وليس للنبي صلى الله عليه وسلم”. وهو ما علق على مسألة أنه يستجير به ويدعوه، فكيف يستجير به إلا إن كان يقصد صد يوم القيامة؟ وهذه تأويلات بعيدة يأتي بها مَن خجل من الصوفية من ذلك الغلو الموجود في البردة.

وفي آخر هذا الجزء يختم القصيدة بالصلاة والسلام الدائمين على النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا الجزء يكثر فيه دعاء النبي صلى الله عليه وسلم والاستغاثة به وإضافة صفات الربانية إليه، فنعوذ بالله.

ومن الأبيات الفاسدة أيضاً قوله:

“وَلَا الْتَمَسْتُ غِنَى الدَّارَيْنِ مِنْ يَدِهِ … إِلَّا اسْتَلَمْتُ النَّدَى مِنْ خَيْرِ مُسْتَلَمِ”

ألتمس الغنى من يد النبي صلى الله عليه وسلم. إن غنى الدارين لا يُلتمس من يد النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما يُلتمس من الله تعالى. وقال ربكم: {ادعوني أستجب لكم}. وكذلك قوله تعالى: {قل من يرزقكم من السماء والأرض} الآية.

 

خامساً: الغلو الأكبر: جعل الدنيا والآخرة وعلم اللوح والقلم من فضل النبي (شرك أكبر)

والآن نأتي إلى البيت الأخطر وهو قوله:

“فَإِنَّ مِنْ جُودِكَ الدُّنْيَا وَضَرَّتَهَا … وَمِنْ عُلُومِكَ عِلْمَ اللَّوْحِ وَالْقَلَمِ”

الدنيا والآخرة من جود النبي صلى الله عليه وسلم! من كرم النبي، من عطاء النبي، ومن علومه علم اللوح والقلم. فجعله بمثابة الخالق الجواد الذي جاد بالدنيا وضرتها، وجعل جزءاً من علومه علم اللوح والقلم، التي كتب الله أمر القلم بكتابة كل شيء إلى يوم القيامة، فجعل كل شيء يجري في الكون إلى يوم القيامة هو جزء من علوم النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا كلام باطل مخالف للقرآن الكريم مخالفة صريحة.

قال الله سبحانه وتعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم: {ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير}. فصار لا، هو كل الغيب جزء من علومه!

 

سادساً: جعل آيات الأنبياء السابقين من نور النبي صلى الله عليه وسلم

ومن الأبيات الفاسدة قوله:

“وَكُلُّ آيٍ أَتَى الرُّسْلُ الْكِرَامُ بِهَا … فَإِنَّمَا اتَّصَلَتْ مِنْ نُورِهِ بِهِمِ”

ومعنى هذا أن كل الآيات والمعجزات التي جاء بها الأنبياء السابقون على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم إنما جاءتهم عن طريق اتصالهم بنوره صلى الله عليه وسلم. وهذا خطأ فادح وتكذيب لنصوص القرآن الكريم. أرأيت إلى قوله تعالى: {وأوحينا إلى موسى أن ألق عصاك فإذا هي تلقف ما يأفكون}، هل كان اتصال موسى بوحي الله مباشرة، أم كان بتوصيل أخرى من نور محمد صلى الله عليه وسلم؟ فانظر إلى كثرة الفساد في هذه القصيدة.

وقد علق الشيخ علي بن يحيى الحدادي حفظه الله تعالى في خطبة انتقد فيها هذه القصيدة وما فيها من فساد، وتكلم عن هذا فقال: “ومن غلوه الفاحش دعواه أن النبي صلى الله عليه وسلم له ملك الدنيا والآخرة، وعلمه محيط بما في اللوح المحفوظ”، وذكر البيت وقال: إن هذا مخالف لقول الله تعالى: {وإن لنا الآخرة والأولى}، ومخالف لقول الله سبحانه وتعالى: {قل لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله}.

 

سابعاً: التعليق على بيت الشرك الأشهر

“يَا أَكْرَمَ الرُّسْلِ مَا لِي مَنْ أَلُوذُ بِهِ … سِوَاكَ عِنْدَ حُلُولِ الْحَادِثِ الْعَمَمِ”

لقد علق الشوكاني على البيت المشهور جداً والشركي في هذه القصيدة في كتابه الدر النضيد قائلاً:

“فانظر رحمك الله تعالى ما وقع من كثير من هذه الأمة من الغلو المنهي عنه المخالف لما في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم كما يقوله صاحب البردة… فانظر كيف نفى كل ملاذ ما عدا عبد الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وغفل عن ذكر ربه ورب رسوله صلى الله عليه وسلم! إنا لله وإنا إليه راجعون”.

 

وهم يؤولون هذا البيت بالقول إنه يقصد الشفاعة العظمى التي يستشفع فيها الناس بالأنبياء حتى تصل إلى محمد صلى الله عليه وسلم.

أقول: هذا تأويل كاذب؛ لأن “يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به” يتكلم عن الأفراد، عن أفراده هو (القائل)، ولا يتكلم عن موقف الشفاعة الجماعية، فهو يتكلم عن ملاذ خاص، ولا يتكلم عن مقام الشفاعة العامة لبدء الحساب.

 

رد التأويلات الفاسدة

إن تأويلاتهم الباردة لهذه الأبيات تدل على أنهم يخجلون منها في الحقيقة، ويخجلون من الشرك الذي ينتشر في قصائدهم التي صارت تتلى في كل مكان. بل إن بعضهم لجأ إلى تبرير فاسد يقول: “لا، هي هذه المقصود بها الله سبحانه وتعالى”، وكأنه كان يتكلم عن النبي وفجأة انتقل إلى الكلام عن الله سبحانه، وهذا تبرير ضعيف.

وفي هذا الصدد، ذكر برهان الدين البقاعي في كتابه مصرع التصوف قاعدة مهمة حيث قال: “هذا فصل، لا يُعتذر عن الصوفية بالتأويل، ولا يُقبل ممن اجترأ على مثل هذه المقالات القبيحة أن يقول: أردت بكلامي هذا خلاف ظاهره، ولا نؤول له كلامه ولا كرامة”.

ما يصح أن يأتي أحد بكلام فاسد يعارض القرآن ويقول: “لا، ما هو أنا قصدت معنى آخر”، هذا لا يجوز! فتبريراتهم وتأويلاتهم تدل أولاً على أن فيهم فئة تخجل من هذا الشرك ولكن اتباعها لمشايخها جعلها لا تتبرأ منه، فتلِفُّ وتدور. وهناك فئة أخرى منافقة أو تعمل بالتقية (التي هي الكذب)، فتعطيك أيها العامي معنى، وتُضْمِر في نفسها ظاهر هذا الكلام المُخرج عن ملة الإسلام لمن اعتقده على ظاهره ولم يتب.

فهذا أمر خطير جداً. نسأل الله سبحانه وتعالى أن يعفو عنا وعنكم، وأن يجنبنا الفتن ما ظهر منها وما بطن.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

 

التسجيل في الجريدة الإلكترونية

عند التسجيل ستصلك مقالات الشيخ الجديدة, كل مقال جديد يكتبه الشيخ سيصلك على الإيميل

(Visited 58 times, 18 visits today)
الانتقادات على قصيدة البردة للبوصيري
تمرير للأعلى