بحث في مسألة الوضوء من مس الذكر
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
عن قيس بن طلق ، عن أبيه قال: «قدمنا على نبي الله ﷺ، فجاء رجل كأنه بدوي فقال: يا نبي الله، ما ترى في مس الرجل ذكره بعدما يتوضأ؟ [أخرجه النسائي (165)، والترمذي (85)، وأبو داود (182)]
فقال ﷺ: هل هو إلا مضغة منه أو بضعة منه» [أخرجه النسائي (165)، والترمذي (85)، وأبو داود (182)]
وعن بسرة بنت صفوان أنها سمعت رسول الله ﷺ يقول: « من مس ذكره فليتوضأ » [أخرجه الترمذي (82)، والنسائي (447)]
هذان حديثان ظاهرهما التعارض؛ فحديث بُسرة ظاهره وجوب الوضوء من مس الذكر، وحديث طلق يظهر منه أن مس الذكر لا ينقض الوضوء. وعليه اختلف العلماء في المسألة بعد أن «اتفقوا فيمن مس فرجه بغير يده من أعضائه أنه لا ينقض وضوءه» [الاستذكار لابن عبد البر (1/282)]
فأما من مسه بيده ففيه أقوال:
المذهب الأول: أن الوضوء لا ينتقض
وقد يُحمل الأمر به على الاستحباب، وهذه إحدى طرق الجمع بين الحديثين، بأن يُجعل الأمر على الاستحباب بدلاً من الوجوب إذا جاءت قرينة صارفة، والقرينة هنا حديث بُسرة. وهذا مذهب أبي حنيفة، ورواية لأحمد اختارها ابن تيمية.
- من طرق الجمع كذلك تقديم الأشهر. قال محمد بن الحسن: «لا وضوء في مس الذكر وهو قول أبي حنيفة، وفي ذلك آثار كثيرة» [موطأ محمد بن الحسن (ص 42)]
- ومن طرق الجمع كذلك تقديم الدليل الأصح: «أصح شيء عندي في مس الذكر حديث بسرة ابنة صفوان» [سنن الترمذي (1/118)]
- ومما يمكن أن يقوي مذهبهم قاعدة: «إعمال الدليلين أولى من إبطال أحدهما بالكلية» [الأشباه والنظائر لابن نجيم]
- ومما استدل به الحنفية: أنَّ «خبر الواحد لو سلم من الطعن لم يقبل عندنا فيما تعم به البلوى» [أصول الجصاص (3/141)]
- وكذلك من طرق الجمع الترجيح بفتاوى الصحابة:
- عن علي رضي الله عنه: «ما أبالي إياه مسست، أو أنفي، أو أذني» لكنه ضعيف [السنن الكبرى للبيهقي (1/134)]
- وسأل رجل سعد بن أبي وقاص عن مس الذكر؛ أيتوضأ منه؟ قال: «إن كان منك شيء نجس فاقطعه» [مصنف ابن أبي شيبة (1/147)]
- وعن ابن عباس قال لابن عمر: «لو أعلم أن ما تقول في الذكر حقاً لقطعته، ثم إذن لو أعلمه نجساً لقطعته، وما أبالي إياه مسست، أو مسست أنفي» [مصنف ابن أبي شيبة (1/147)]
- وعن ابن مسعود: «ما أبالي إياه مسست، أو أرنبتي» [مصنف عبد الرزاق (1/111)]
- عن قيس بن السكن، أن علياً وعبد الله بن مسعود وحذيفة بن اليمان وأبا هريرة لا يرون من مس الذكر وضوءاً، وقالوا: لا بأس به [مصنف ابن أبي شيبة (1/147)]
- ولهم قاعدة: «اليقين لا يزول بالشك» قال ابن المنذر: «وحكى عن ابن المبارك أنه قال: ليس في نفسي شيء من مس ذكره أنه ليس عليه وضوء» [الأوسط لابن المنذر (1/142)]
- وقال بعضهم أجمع أهل العلم على أن الرجل إذا توضأ فهو طاهر واختلفوا في انتقاض طهارة من مس ذكره وقد اختلفت الأخبار فيه [الإجماع لابن المنذر (ص 36)]
المذهب الثاني: أن الوضوء ينتقض
«روي هذا القول عن عمر بن الخطاب وسعد بن أبي وقاص وأبي هريرة وابن عباس وكان ابن عمر يتوضأ من مس الذكر» «وبه يقول الأوزاعي والشافعي وأحمد وإسحاق.» «واختلفت الرواية فيه عن مالك» [المغني لابن قدامة (1/117)]
- ولهم أن حديث طلق تفرَّد به ولده قيس، وهو فيه كلام، فعلى قول مَن ضعفه يكون الأمر من باب الأخذ بالصحِيح مع طرح الضعيف [فتح الباري لابن حجر (1/325)]
- وأما من قواه فجمع بينه وبين حديث بُسرة بطرق منها القول بالنسخ؛ قال ابن حِبان: «خبر طلق بن علي الذي ذكرناه خبر منسوخ» [صحيح ابن حبان (3/404)]
- ودليلهم على النسخ أن حديث طلق كان لما قدم المدينة وهم يبنون المسجد، وقد جاء حديث أبي هريرة بالوضوء لاحقاً، وأبو هريرة أسلم عام خيبر بعد ذلك بست سنين [صحيح ابن حبان (3/404)]
- عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله ﷺ: «إذا أفضى أحدكم بيده إلى فرجه، وليس بينهما ستر ولا حجاب، فليتوضأ» [صحيح ابن حبان (1114)، مسند أحمد (2/333)]
- كذلك من طرق الجمع «يقدم الناقل عن الأصل على المبقى له» فحديث طلق مبقٍ على الأصل، وحديث بُسرة فيه تشريع زائد [إرشاد الفحول للشوكاني]
- كذلك من طرق الجمع تقديم الأشهر؛ قال الإمام أحمد: «هذا أكثر» والقول بانتقاض الوضوء رواه غير واحد [مسائل الإمام أحمد]
- الترجيح بفتاوى الصحابة:
- عن عمر: «من مس فرجه فليتوضأ» [الموطأ (1/42)]
- عن نافع أن عبد الله بن عمر كان يقول: «إذا مس أحدكم ذكره، فقد وجب عليه الوضوء» [الموطأ (1/42)]
- قال الحاكم: «وقد صحَّت الرواية عن عائشة بنت الصِّدِّيق رضي الله عنهما أنها قالت: إذا مسَّت المرأةُ فرجَها توضأَت» [المستدرك للحاكم (1/138)]
- عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه أن النبي ﷺ قال: «أيما رجل مس فرجه فليتوضأ، وأيما امرأة مست فرجها فلتتوضأ» [مسند أحمد (2/223)]
- عن أم حبيبة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله ﷺ يقول: «من مس فرجه فليتوضأ» [سنن ابن ماجه
