بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد
روى الطبري عن ابن عباس، أنه كان يقرأ قوله تعالى: ﴿أَفَلَمْ يَيْئَسِ الَّذينَ ءامَنُوا﴾ [سورة الرعد:13] هكذا: «أَفَلَمْ يَتَبيَّنِ الَّذِينَ آمنُوا» وهذا لا ضير فيه على مسألة القراءات الواردة عن الصحابة مما يخالف المصحف، وذلك يوجه بأحد هذه التوجيهات:
أحدهما: أن يكون خطًأ من الذي نسبت له القراءة، أو من الناقل عنه.
الثاني: أن تكون هذه من القراءات المنسوخة، فقرأها دون علم بنسخها.
الثالث: أن يكون تفسيرًا نُقل على أنه قراءة.
وهذا لا إشكال فيه
إلا أن الإشكال في زيادة ذكرها الطبري في هذا الحديث، وهي: «قال: كتب الكاتبُ الأخرى وهو ناعسٌ»
فهذه الزيادة كانت موضع شبهة إذ أنها تنسب الخطأ إلى المصحف المكتوب المُجمع عليه.
والجواب عن هذا الإشكال:
أولًا:
رواية الطبري هي الآتية:
«حدثنا أحمد بن يوسف قال: حدثنا القاسم قال: حدثنا يزيد، عن جرير بن حازم، عن الزبير بن الخِرِّيت -أو يعلى بن حكيم- عن عكرمة، عن ابن عباس، أنه كان يقرؤها:”أَفَلَمْ يَتَبيَّنِ الَّذِينَ آمنُوا”؛ قال: كتب الكاتب الأخرى وهو ناعسٌ». تفسير الطبري ط دار التربية والتراث (16/ 452)
فالرواية نقلها الطبري عن أحمد بن يوسف عن القاسم بن سلَّام، وقد شك في إسنادها، فقال: « عن الزبير بن الخِرِّيت، أو يعلى بن حكيم »
لكن بالرجوع إلى كتاب القاسم نفسه لا نجد هذه الزيادة، ولا هذا الشك.
قال القاسم: حدثنا يزيد، عن جرير بن حازم، عن يعلى بن حكيم، عن عكرمة، عن ابن عباس، أنه كان يقرأ «أفلم يتبين الذين آمنوا». [فضائل القرآن (ص302)]
وهذا كما ترى نفس الإسناد، فتكون هذه الزيادة شاذة. والشاذُّ من صنف الضعيف.
وبرواية الطبريَّ متابعة رواها عليٌّ الهُنائي، قال: «وحدّثنا أبو يُوسُفَ يَعْقُوبُ بن إسْحاقَ الأَصْبَهَاني، عن عَلِيّ بن عبدِ العزيزِ عن أبي عُبَيْدٍ، قال: حدّثنا يزيد بن هارون، عن جرير بن حازم، عن زُبَيرِ بنِ خِرِّيتٍ – أو يَعْلى بن حَكيمٍ – عن ابن عباسٍ – وقال مرةً أخرى: عن جَريرِ بن حازمٍ عن يَعْلَى بن حكيم عن عِكْرَمَةَ عن ابن عباس – أنه كان يَقْرَؤُها: «أَفَلَمْ يَتَبَيَّنِ الَّذينَ ءَامَنُوا» وقال: كَتَبَ الكاتبُ الأُخْرى وهو ناعِسٌ». المنجد في اللغة (ص362)
ويعقوب لم أجد له توثيقًا معتبرا.
وأما علي بن عبد العزيز فقد أخذ القراءات عن القاسم «قال الدارقطني: ثقة مأمون. وقال ابن أبي حاتم: كتب إلينا بحديث أبي عبيد، وكان صدوقا». سير أعلام النبلاء – ط الرسالة (13/ 349) إلا أنا لا نستطيع أن نتوثق أنه روى هذه الزيادة وأنها ليست مما أدرجه يعقوب الراوي عنه، أو المصنف نفسه، فهو أيضا ليس مُوَثَّقًا.
ورواه سعيد بن منصور «قال: نا خالد بن عبد الله، عن حنظلة السدوسي، قال: قرأت عند عكرمة: ﴿أفلم ييأس الذين كفروا﴾ فقال: أما هي: «فليتبين الذين آمنوا» قال: فذكرت ذلك لشهر بن حوشب فقال: صدق، ردني عليه ابن عباس». سنن سعيد بن منصور – بداية التفسير – ت الحميد (5/ 439)
قلت: حنظلة بن عبد الله السدوسي متفق على ضعفه كما في [الكمال (4/ 325)] إلا أنه يحكي ما جرى معه في قراءته مباشرة على عكرمة، وسؤاله المباشر لشهر.
وهذه الرواية مخالف متنها للأخرى، فهذه « فليتبين» والأخرى: «أفلم يتبين» فهناك اضطراب!
ثانيًا:
المصاحف التي أمر عثمان بكتابتها ليست واحدا، بل «كَتَبَ عُثْمَانُ الْمَصَاحِفَ حِينَ جَمَعَ الْقُرْآنَ، كَتَبَ سَبْعَةَ مَصَاحِفَ، فَبَعَثَ وَاحِدًا إِلَى مَكَّةَ، وَآخَرَ إِلَى الشَّامِ، وَآخَرَ إِلَى الْيَمَنِ، وَآخَرَ إِلَى الْبَحْرَيْنِ، وَآخَرَ إِلَى الْبَصْرَةِ، وَآخَرَ إِلَى الْكُوفَةِ، وَحَبَسَ بِالْمَدِينَةِ وَاحِدًا». المصاحف لابن أبي داود (ص134)
فإن كان الكاتب ناعسًا، فهل نعس السبعة في نفس الوقت، وأخطأوا نفس الخطأ، فاتفق أهل الأمصار عليه!؟ هذا غير ممكن.
ثالثًا:
ابن عباس تُروى عنه قراءات متواترة وأخرى من الأربع الزوائد ليس فيها هذا الكلام.
قراءة أبن كثير، فهو «قرأ على مجاهد وأخبرني مجاهد أنه قرأ على ابن عبّاس وأخبرني ابن عبّاس أنه قرأ على أبيّ وقرأ أبيّ على رسول الله صلى الله عليه وسلم». جامع البيان في القراءات السبع (1/ 232)
وقراءة ابن مُحيصن وهي من الأربع الزوائد «عرض مجاهد وعطاء وسعيد على عبد الله بن عبّاس وعرض ابن كثير وابن محيصن [وحميد على مجاهد، وعرض ابن عباس على أبيّ وزيد وعرضا على رسول الله صلى الله عليه وسلم» جامع البيان في القراءات السبع (1/ 236)
وكذلك فإن المتواتر مروي من طريق عكرمة عن ابن عباس، وهي قراءة أبي عمرو بن العلاء فقد «قرأ على جماعة من أهل الحجاز، منهم: مجاهد بن جير، وسعيد بن جبير، وعكرمة، وقرءوا على عبد الله بن عباس، وقرأ ابن عباس على أبيّ بن كعب، وقرأ أبيّ على النّبيّ صلى الله عليه وسلم». الوجيز في شرح قراءات القراء الثمانية أئمة الأمصار الخمسة (ص74)
رابعا:
إذا تبيَّن لك ما سبق، ننظر إلى ما جاء عن ابن عباس وتلميذه مجاهد في هذه الآية
روى الطبري: حدثني محمد بن سعد قال: حدثني أبي قال: حدثني عمي قال: حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: {أفلم ييأس الذين آمنوا} يقول: ألم يتبين
وقال: حدثنا عمران بن موسى قال: حدثنا عبد الوارث قال: حدثنا ليث، عن مجاهد، في قوله: {أفلم ييأس الذين آمنوا} قال: أفلم يتبين.
فجاء هذا عنهما في باب التفسير، لا في باب القراءة.
فلعل بعض الرواة توهم فنسبها له على أنها من القراءة.
الخلاصة:
الرواية التي فيها التشكيك بكاتب المصحف شاذة لمخالفتها ما رواه القاسم بن سلام في كتابه، ومخالفتها المتواتر عن ابن عباس.
والقراءة المنسوبة له إما أنه قال ذلك تفسرًا، أو قاله ورجع عنه، لأنه مخالف لما نقل عنه في القراءات المتواترة.
والله أعلم.