لماذا الله تعالى يعطي الكفّار في الدنيا، ولماذا يبتلي المؤمنين
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد
يطرح البعض سؤالًا عن سبب إعطاء الله الكفار من خير الدنيا، وابتلاء المسلمين!
وفي تفصيل ذلك يوجد مسائل:
أولا: إذا فُتحَت أبوابُ الدّنيا على العَبد، فهي لا تخلو من أربع مراتب، أذكُرها مِن الأسوأ إلى الأحسَن:
1- استدراج: وذلك في قول الحكيم الجبّار: ﴿فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ﴾ (الأنعام:44)، فهؤلاء قوم (نَسُوا) أي تركوا وتناسوا دينهم، ففتح الله عليهم أبواب الدّنيا ومَلذّاتها ليذَرهم يفعلوا فيها ما يشاؤون، فلمّا بَطَروا وفَسَقوا وعاثوا فساداً في هذه الخّيرات، أنزل الله عليهم العذابَ بِذَنبهم (بغتة) أي فَجأة، وعلى حين غرّة.
والّذينَ ذُكِروا في هذه الحَالة هم شِرار النّاس، وهم الّذين أعرضوا عن دين الله عز وجل، أو قد يكونوا ممن ابتدعوا وأفسدوا في الدين فأتاهُم من خير الدّنيا فظنّوا أنهم على حق ﴿قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا﴾.
2- أجر: وهذا من أخطرها وأخوفها، وهذا الذي تَكَلّم عنه الله في الآية السّابقة ﴿مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا﴾، وقوله تعالى: ﴿مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ﴾، وذلك أن ثواب الأعمال الجيدة التي عملها العبد يجعله الله في الدّنيا، ولا يكون له نصيب في الآخرة -والعياذ بالله-، وقَد أكّد الله تعالى قائلاً: ﴿وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ﴾، و ﴿فِيهَا﴾ أي في الدّنيا، و ﴿لَا يُبْخَسُونَ﴾ أي سينالون أجورهم كاملة غير منقوصة في الدّنيا، فيا ويلهم إذ يلقون الله بلا عمل صالحٍ يستحق الأجر!
وهذا في {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا}، والدنيا هي المسماة بالعاجلة.
3- ابتلاء: وهو كما في قول الله جل ذِكره: ﴿فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ﴾، وقوله ﴿وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً﴾، ففي هذه الحالة يرزق الله تعالى العبد ويُعطيه من ملذّات الدُّنيا، فيصير هذا العبد بين خيارين، أما أن يَبطش ويَطغى ويفسق أو أن يشكر ويتواضع ويتصدق. فهذا الابتلاء، وهو اختبار إما أن ينجح فيه العبد فينال الدرجات عند الله، أو يفشل ويقع في الآثام والمعاصي -والعياذ بالله-.
4- إكرام: كما قال الغني الكريم: ﴿ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ ..﴾ (الأعراف:96)، وهذا الإكرام يكون في العَام أكثر منه في الخاص، والعام هو فتح أبواب الخَير والبركة على البِلاد التي تُقيم الشّرع (ومِنه العَدل)، أكثر مما نراها تُفتح على الأفراد، وهذا لأسباب، منها:
قول رسول الله ﷺ: (إنَّ العبدَ إذا سبقت له من اللهِ منزلةٌ لم يبلغْها بعمله ابتلاه اللهُ في جسدِه أو في مالِه أو في ولدِه ثم صبَّره على ذلك حتى يُبلِّغَه المنزلةَ التي سبقت له من اللهِ تعالى) [رواه أبو داود وسكت عنه، وصححه الألباني].
ومما سَبق، نجد أجوبة على أسئلة كثيرة تَجول في خواطر الناس، منها: “كَيف يَدخُل الكافر النار خالداً فيها مُهاناً وهو ممن يحب الخير ويساعد النّاس؟” فإذا قسناه على المبدأ السّابق وجدنا الإجابة في المرتبة الأولى،
ومنها: “لماذا الله يرزق الكَفَرة الفجرة ويفتح لهم أبواب السّعادة الدُّنيوية” فنجد الإجابة في المرتبة الأولى والثّانية،
ومنها “هل الرزق والنِّعَم علامة على التّقوى أم على الفجور” فنجد بالنّظر إلى المراتب الأربعة أنّه لا يمكن جعل نَعيم الدّنيا علامة على التّقوى أو على الفجور.
ثانيًا: القول بالمقارنة بين نعيم الكافر وابتلاء المؤمن فيه نوع من قصور النظر، حيث أن صاحب المقارنة ينظر غالبًا إلى البلاد الإساميّة المنكوبة، ويقارنها مع البلاد الكافرة الثريّة، ولكن لو قارن دولة من دول المسلمين كماليزيا أو السعودية أو تركيا أو قطر أو الكويت، بدولة من دول المشركين كالأرجنتين أو أرمينيا أو نيجيريا أو أنجولا أو كوريا الشماليّة أو كثير غيرها من بلاد المشركين، يجد أن الفرق كبير في مستوى المعيشة والتقدم الحضاري والعلمي والصحّي لصالح بلد المسلمين، فمن الخطأ مقارنة الأسوأ معيشيًّا عند المسلمين، بالأكثر رفاهية عند المشركين.
[مصادر تصنيف الدول بحسب الفقر (indexmundi) (albankaldawli)]
ثالثًا: وجود ثراء أو رفاهية عند المشركين يجاب عليه بما قدّمنا من تأصيل أخذناه ممن كلام الله تعالى، ولكن الله أجاب عنه بكلام واضح بيّن كوضوح الشمس بقوله: ﴿مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا﴾ الإسراء:18-21
فبيّن ربّنا أنّ عطاء الدّنيا يكون للمؤمن والكافر ﴿كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ﴾ وأن ذلك لن يُمنع على أساس الكفر {وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا﴾، ثم بيّن أنه سيكون تفاضل بين النّاس في رزق الدنيا ﴿انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ﴾ لكن هذا ليس معيارًا وإنما المعيار والغاية هي الآخرة ﴿وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا﴾.
والله أعلم
والحمد لله رب العالمين