بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد
قال الله تعالى في سورة الغاشية: ﴿ لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ ﴾
وقال في سورة الحاقّة: ﴿ وَلَا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ (36) ﴾
وقال في سورة الواقعة: ﴿ لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ (52) ﴾
وجه الإشكال
أن الله تعالى قال في الآية الأولى ﴿لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ﴾ فحصر طعامهم بالضريع فقط، وفي الثانية ﴿ وَلَا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ﴾ فحصر طعامهم بالغسلين فقط، وفي غيرها ﴿لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ﴾ فأثبت أنهم يأكلون من الزقوم
أقوال المفسرين
القول الأول: كل آية فيها وصف لبعض الدركات
ممن قال ذلك: الماتريدي، الواحدي، وقال الواحدي: وهذا قول عبد الله بن مسلم، ومعنى قول الكلبي، والزمخشري، وابن الجوزي، والقرطبي، والنسفي، والخازن، وصديق حسن خان، ومحمد الأمين الشنقيطي.
القول الثاني: الغسلين هو الضريع
ممن قال هذا: مكي بن أبي طالب
وكثير من المفسرين نقلوا القول الأول والثاني معا.
القول الثالث: الضريع هو شجر يسيل الغسلين منه
وهو قول ابن عاشور
مناقشة الأقوال
القول بأن الغسلين هو الضريع غير معروف لغويًّا، وإنما قيل للتوفيق بين الآيتين.
أما القول بأن كل آية كانت عن أهل دركة، فهو قول ممكن، وقريب مما سنقول.
لو إذا نظرنا إلى السياق لوجدنا أن لا إشكال أصلا، وأن القول واضح لمن تأمَّله
الضريع
قال الله تعالى في سورة الغاشية: ﴿ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ (2) عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ (3) تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً (4) تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ (5) لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ ﴾
فوصف أكلي الضريع بأنهم عاملون، وذهب جماعة من أهل العلم أنهم يؤدون عبادات في الدنيا وهم على الباطل، كما يفعل اليهود والنصارى الذين بلغتهم بعثة محمد ﷺ. وهم ناصبون، يلقون نصبا وعناءً في الآخرة
الغسلين
وقال في سورة الحاقّة: ﴿ وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَالَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ (25) وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ (26) يَالَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ (27) مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ (28) هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ (29) خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (30) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (31) ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ (32) إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ (33) وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (34) فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ (35) وَلَا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ (36) لَا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِئُونَ (37)﴾
فوصف أكلي الغِسلين بأنَّهم لا يؤمنون بالله العظيم، وهؤلاء غير الصنف السابق ممن آمن وأفسد إيمانه بالشرك {وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون}. بل أهل هذا الصنف ﴿وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ﴾ وقد يدخل فيهم من انتكس إيمانه بالله تعالى كالجهمية الذين ادعوا أن الله -تعالى- في كل مكان، ومن كان من هذا الجنس
الزقوم
وقال في سورة الصافات: ﴿ فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (50) قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ (51) يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ (52) أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَدِينُونَ (53) قَالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ (54) فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ (55) قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ (56) وَلَوْلَا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (57) أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ (58) إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (59) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (60) لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ (61) أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ (62) إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ (63) إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ (64) طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ (65) فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ (66) ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْبًا مِنْ حَمِيمٍ (67) ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ (68) إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ ضَالِّينَ (69) فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ (70) ﴾
وقال في سورة الدخان: ﴿ إِنَّ هَؤُلَاءِ لَيَقُولُونَ (34) إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ (35) فَأْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ إلى قوله: ﴿إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ (43) طَعَامُ الْأَثِيمِ (44) كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ (45) كَغَلْيِ الْحَمِيمِ (46) خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ (47) ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ (48) ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ (49) إِنَّ هَذَا مَا كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ (50) ﴾
وقال في سورة الواقعة: ﴿وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ (41) فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ (42) وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ (43) لَا بَارِدٍ وَلَا كَرِيمٍ (44) إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ (45) وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ (46) وَكَانُوا يَقُولُونَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (47) أَوَآبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ (48) قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ (49) لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (50) ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ (51) لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ (52) فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ (53) فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ (54) فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ (55) هَذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ (56) ﴾
أما آكلو الزقوم فإنهم اشتركوا بالتكذيب بيوم الدين، وهذه فصفة غير موجودة بأهل الكتاب، وموجودة في الذين لا يؤمنون بالله، ولكن الذين لا يؤمنون بالله هم صنف أخص من الذين ينكرون البعث، فكل من أنكر الله كذب بالبعث، وليس كل من كذَّب بالبعث أنكر الله، فيكون الغسلين لمن أنكر الله حصرًا.
هذا والله أعلم